الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب اللباس
الحديث الأول
عَن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ؛ فَإنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَة"(1).
أما الحرير؛ فهو اسم جنس، واحدته هريرة، ذكره الجوهري.
وقال أبو هلال العسكري: ويقال له: الدِّمَقْسُ، والسَّرَقُ، والسيَراء. [وقيل: السيراء] (2): ضربٌ من البرود مسير مخطط، وهو عربي، وقيل: فارسي معرب، وهو ضعيف. وإنما سمي حريرًا؛ لأنه من خالص الإبْرِيسَم. وأصل هذه الكلمة الخلوص، ومنه قولهم: طين حر؛ لأنه لم يخالطه رمل أو حمأة. وقيل للحر خلاف العبد: حر؛ لأنه خالص لنفسه، وحررتُ الكتاب: خَلَّصته من التسويد. هذا آخر كلامه، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبَسُوا الحريرَ"؛ هذا خطاب للذكور، فلا يدخل فيه الإناث، كما قال عبد الله بن الزبير في خطبته: لا تُلْبِسوا نساءكم الحرير، مستدلًا بهذا الحديث على تحريمه عليهن، وهو مذهبه.
(1) رواه البخاري (5496)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحربر وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه، ومسلم (2069)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وهذا لفظ مسلم.
(2)
ما بين معكوفين ليس في "ح".
لكنه وقع الإجماع على إباحته لهن، وخطاب الذكور لا يتناول النساء عند الإطلاق عند محققي الأصوليين، والأحاديث الصحيحة في "صحيح مسلم" مصرحة بإباحته لهن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا وأسامة أن يكسوا الحرير نساءهما، والحديث مشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحرير والذهب:"إن هَذَيْنِ حَرامٌ على ذُكور أُمَّتي، حِلٌّ لإنِاثها"(1)، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه من لبسَه في الدنيا، لم يلبسْهُ في الآخرة"؛ هذا علَّة منه صلى الله عليه وسلم للمنع من لبسه، وكأنه إشارة إلى ما فيه من التنعم والتزيين، فقوبل من لبسه في الدنيا بمنعه إياه في الآخرة؛ كما مُنع مَنْ شرب الخمر في الدنيا، [بمنعِه](2) شربَها في الآخرة، وكذلك من طرب في الدنيا بغير مأذون فيه صورة ومعنى، لم يطرب في الآخرة؛ فالطرب في الشرع: هو عبارة عن فكر يطرأ عند التدبر فيما يسمعه، والمأذون فيه: هو القرآن، والحديث النبوي، وغيرهما من الأحكام والحكم والمواعظ، نثرًا ونظمًا، فمن طرب بغير ذلك بغير صورة الطرب شرعًا، لم يطرب في الآخرة.
ولفظ هذا الحديث بذكر هذه العلة، عامٌّ في الرجال والنساء، لكنه مخصوص في النساء بأحاديثِ الإذن لهن في لبسه، فيبقى على منعه في الرجال.
ولا نقول: إن عموم هذا الحديث ناسخ؛ لخصوص الإذن في النساء؛ لعدم معرفة التاريخ، والمتقدم منها والمتأخر.
نعم، لو قيل بكراهته لهن، لم يبعد، لكني لا أعلم من قال به الآن، فإنهم قالوا: هو مباح لهن بالإجماع، وهو مستوي الطرفين، والكراهة ترجيحُ جانب
(1) رواه أبو داود (4057)، كتاب: اللباس، باب: في الحرير للنساء، والنسائي (5144)، كتاب: الزينة، باب: تحريم الذهب على الرجال، وابن ماجه (3595)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير والذهب للنساء، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 96)، وابن حبان في "صحيحه"(5434)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2)
ليست في "ح".
المنع على الإباحة، لكنه قد يكون الشيء مكروهًا بالنسبة إلى تنقيص الثواب في الآخرة، لا للإذن فيه في الدنيا.
ومثل هذا في أحكام الدنيا امتناعُ الملائكة من دخول البيت الذي فيه صورة، مع الإذن في جواز افتراش الذي فيه الصورة؛ جلوسًا ونومًا وحذاء.
وكذلك من يُجوِّز شرب الخمر للتداوي؛ فإن مقتضى الحديث منعُ من شربها في الآخرة مطلقًا، له ولغيره.
وبالجملة، فالكراهة لهن غير بعيدة، ولو لم تكن لشيء إلا لكون الخلاف قد حكي في تحريمه عليهن قبل الإباحة.
كيف وقد روى النَّسائيُّ بإسناد حسن عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنع أهله الحلية والحرير، ويقول:"إن كنتم تحبون حِلْيَةَ الجنةِ وحريرَها، فلا تَلْبَسوها في الدنيا"(1).
وهذا يقوي ما فهمه ابن الزبير من المنع، والإجماع مع الأحاديث الصحيحة يمنع التحريم عليهن، فيحملى حديث عقبة بن عامر، ومنعُ ابن الزبير وغيره: على كراهة التنزيه؛ جمعًا بين الأدلة، والله أعلم.
وفي هذا الحديث دليل: على تحريم مطلق الحرير، وهو محمول عند جمهور العلماء على الخالص منه في حق الرجال، والنهي عندهم للتحريم.
والممتزج بغيره اختلف الفقهاء فيه اختلافًا كثيرًا:
فمنهم: من منعه مطلقًا للرجال؛ لأجل مسمى الحرير، إلا فيما خرج عنه بالإجماع، فيحل، ويبقى فيما عداه على التحريم.
ومنهم: من اعتبر في التحريم الغلبة، فمنهم من اعتبرها بالظهور وفي الرؤية؛ كالعتابي؛ فإن الظهور فيه أغلب من الوزن، والله أعلم.
(1) رواه النَّسائيُّ (5136)، كتاب: الزينة، باب: الكراهية للنساء في إظهار الحلي والذهب، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 145)، وابن حبان في "صحيحه"(5486)، والحاكم في "المستدرك"(7403).