الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب القصاص
القصاص: بكسر القاف، قاله الأزهري، القصاص: المماثلة، وهو مأخوذ من القَصّ، وهو القطع، وقال الواحدي وغيره من المحققين: هو من اقتصاص الأثر، وهو تتبعه؛ لأن المقتص يتبع جناية الجاني، فيأخذ مثلها.
يقال: اقتص من غريمه، وأقصَّ السلطانُ فلانًا من فلان؛ أي: أخذ له قصاصه. ويقال: استقصَّ فلان فلانًا: طلب منه قِصاصه (1).
* * *
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِىٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؛ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"(2).
أما ابن مسعود؛ فتقدم الكلام عليه.
وأما هؤلاء الثلاثة؛ فإنهم مباحو الدم بالنص.
(1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 293)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 73)، و"القاموس المحيط" للفيروز أبادي (809)، (مادة: قصص).
(2)
رواه البخاري (6484)، كتاب: الديات، باب: قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]، ومسلم (1676)، كتاب: القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يشهُد أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأَنِّي رسولُ اللهِ" هو كالتفسير لقوله: "امرئٍ مسلمٍ".
واعلم أن الإسلام لا يصح إلا بالتلفظ بهما، مع اعتقاد صحتهما ومعناهما، ومن قام بذلك، كان مؤمنًا مسلمًا، فكل مؤمن مسلمٌ، وكل مسلمٍ مؤمنٌ، وإنما يختلفان باختلاف معناهما في لفظهما، وباختلاف تعلقهما.
فالإسلام في اللغة: الانقياد، وفي الشرع: انقيادٌ مخصوص على وجه مخصوص.
والإيمان: التصديقُ في وضعه. وفي الشرع: قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالجَنان، وعملٌ بالجوارح والأركان.
ومتعلق الإسلام والإيمان بالظاهر والباطن، لمن آمن بلسانه، وصدق بقلبه، فهو مؤمن مسلم، ومن صدق بقلبه ولم يؤمن بلسانه، فإن كان لعذر، نفعه ذلك في عدم الخلود في النَّار، ولهذا يقال يوم القيامة:"أَخْرِجُوا مَنْ في قَلْبهِ أَدْنى أَدْنى ذَرَّةٍ منْ إيمانٍ" على ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وإن أكره على ترك الإسلام بعد وجوده، مع اطمئنان قلبه به، لم يضره ذلك في الدُّنيا والآخرة. ومن صدق بلسانه، ولم يؤمن بقلبه، جرى عليه حكم الإسلام في الدنيا؛ من عصمة دمه وماله وحريمه، وكان في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن المنافقين.
وجميع ما ذكرناه من ذلك في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهدت به العقول، وبصرت به القلوب، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الثيبُ الزاني"؛ معناه: المحصَن إذا زنى، وهو من وطئ في نكاح صحيح، وهو حر بالغ عاقل.
(1) رواه البخاري (22)، كتاب: الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، ومسلم (184)، كتاب: الإيمان، باب: إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
والإحصان: أصله: المنع. وله معان:
أحدها: الموجب رجم الزاني، ولا ذكر له في القرآن، إلا في قوله تعالى:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]؛ أي: مصيبين بالنكاح لا بالزنا.
ويطلق بمعنى: العفة والحرية والتزوج والإِسلام، وكلها مذكورة في كتاب الله تعالى.
والجامع لأنواع الإحصان: المنعُ، فكل واحد ممن ذكرنا يمنع مما ينافيه، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "المفارقُ للجماعةِ"؛ هو كالتفسير له ولقوله: "التاركُ لدينهِ".
وكل من فارق جماعةَ من المسلمين، في قولٍ أو عمل أو اعتقاد، فهو تارك لدينه، لكن تختلف صفات الترك المفارقة.
فكل مرتد عن الإِسلام بأي ردة كانت، وجب قتله، وكل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي، أو كان من الخوارج، قوتل حتى يرجع إلى الجماعة، وليس بكافر، ويمكن أن يكون خروجه كفرًا.
والمراد بفراق الجماعة: المخالفة لأهل الإجماع.
وهذا الحديث عام، وقد خص بعضهم الصائلَ؛ حيث يُباح قتله للدفع، ولم يذكر في الثلاثة، وهو داخل فيمن فارق الجماعة.
ويحتمل أن يحمل الحديث على من يحل تعمد قتله قصدًا من الثلاثة المذكورين، دون غيرهم، والله أعلم.
وفي الحديث أحكام:
منها: أن المسلم لا يصير مسلمًا إلا بالتلفظ بالشهادتين؛ فإنه صلى الله عليه وسلم جعلهما كالتفسير والوصف للمسلم، وذلك لا يعرف إلا بالتلفظ، والاتصاف.
ومنها: عصمة دم المسلم، إلا فيما ذكر.
ومنها: وجوب القصاص في النفس بشرطه.
ومنها: إباحة دم الزاني المحصن بصفته المعروفة في الأحاديث الصحيحة، وهو الرجم بالحجارة.
ومنها: إباحة دم المرتد بشرطه في الرجل، واختلف في المرأة، فالجمهور على أنها تقتل بالردة كالرجل، وقال أبو حنيفة: لا تقتل.
ومنها: استدلال أصحاب أبي حنيفة على أن المسلم يقتل بالذمي، ويقتل الحر بالعبد؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"والنفس بالنفس"، وجمهور العلماء على خلافه، منهم: مالك، والشافعي، والليث، وأحمد.
ومنها: أن مخالف الإجماع يكفر، فيقتل، وهو قول العلماء المتقدمين.
ومعناه: إذا خالفه معتقدًا جواز مخالفته.
ولا شك أن التكفير ليس بالهين، وقد تقدم التكفير وطريقه في المسائل الإجماعية قريبًا من هذا الكتاب، ويزيده وضوحا.
ولا شك أن المسائل الإجماعية، قد يصحبها التواتر بالنقل من صاحب الشرع، كوجوب الصّلاة مثلًا، وقد لا يصحبها. فالأول: يكون جاحدُه مخالفا للتواتر، لا مخالفا للإجماع؛ لعدم انعقاده على تكفير تاركها، غير جاحد وجوبها.
وقد ظن بعض من يميل إلى الفلسفة، ويدعي الحذق في المعقولات: أن المخالف في حدوث العالم من قبيل مخالفة الإجماع، وأخذ من قول من قال: لا يكفر مخالف الإجماع: ألَّا يكفر هذا المخالف في هذه المسألة.
قال شيخنا الإِمام أبو الفتح رحمه الله: وهذا كلام ساقط بمره إما عن عمًى في البصيرة، أو تعام؛ لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة، فيكفر المخالف بسبب مخالفة النقل المتواتر، لا بسبب مخالفة الإجماع.
ومنها: ما استدل به شيخ والد شيخنا الإِمام أبي الفتح الإِمام الحافظ، أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي -رحمه الله تعالى-: على أن تارك الصلاة،
لا يقتل بتركها، في قصيدة له نظمها استخراجًا من هذا الحديث؛ من حيث إنه صلى الله عليه وسلم حصر حل دم المرء المسلم في هذه الثلاثة؛ وهي زنا المحصن، وقتل النفس، والردة بلفظ النفي العام والاستثناء منه لهذه الثلاثة. ومن جمله القصيدة أبيات، وهي:
خسرَ الذي تركَ الصلاةَ وخابا
…
وأَبى مَعادًا صالحا ومَآبا
إنْ كانَ يجحدُها فحسبُك أنه
…
أَمْسى بِربِّكَ كافرًا مُرْتابا
أو كانَ يتركُها لنوعِ تكاسُلٍ
…
غَشَى على وجهِ الصوابِ حِجابا
فالشافعي ومالكٌ رأيا له
…
إنْ لم يتبْ حد الحسامِ عِقابا
وأبو حنيفةَ قالَ يترَكُ مرةً
…
هَمَلًا ويُحْبَسُ مَرةً إيجابا
والظاهرُ المشهورُ من أقوالِه
…
تعزيرُه زَجْرًا له وعَذابا
إلى أن قال:
والرأيُ عندي أَنْ يؤدبه
…
الإمامُ بكلِّ تأديبٍ يراهُ صوابا
ويكفّ عنه القتل دونَ حياتِه
…
حتى يلاقيَ في المآبِ حِسابا
فالأصلُ عصمتُه إلى أَنْ يمتطي
…
أحدَ الثلاثِ إلى الهلاكِ رِكابا
الكفرُ أو قتلُ المكافئِ عامِدًا
…
أو مُحْصَنْ طلبَ الزنا فأصابا
فأبو الحسن علي بن الفضل المقدسي في قصيدته هذه، قد اختار خلاف مذهب مالك في ترك قتله، وهو من المنسوبين إلى أتباع مالك (1).
واستشكل إمام الحرمين أبو المعالي الجويني قتله من مذهب الشافعي أيضًا.
وقوى بعض المتأخرين إزالةَ الإشكال في عدم قتله؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتلَ الناسَ حَتَّى يَشْهدوا أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأَنِّي رَسولُ اللهِ، ويُقيموا الصلاةَ، ويُؤْتوا الزكاةَ"(2).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 85 - 86).
(2)
تقدم تخريجه.
فرتب صلى الله عليه وسلم الأمرَ بالقتال على أشياءَ بالغاية على وجودِها جميعًا، وذلك يثبت بحصول مجموعها، ولا ينتفي إلا بانتفائها جميعها.
فإن قصد بها الاستدلال من الحديث المذكور الدلالة المنطوقية، وهي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية، فقد وَهِلَ وسَها؛ فإن المقاتلة تقتضي المفاعلة من الجانبين، ولا يَلْزَمُ من ذلك إباحة القتل على ترك الصَّلاة، إذا لم يقاتل. ولا إشكال بأن قومًا لو تركوا الصّلاة وقاتلوا عليها، قوتلوا، بدليل مناظرة عمر والصديق رضي الله عنهما في قتال مانعي الزكَاةِ، وقول الصديق لعمر رضي الله عنهما: أرأيت لو تركوا الصلاة، أكنت تقاتلهم؟ فقال: نعم، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن مَنْ فرق بين الصلاة والزكاة. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ الله قد شرح صدرَ أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق، فقاتلهم (1).
وإن قصد به الدلالة المفهومية في ترتيب القتال على فعل المعصية الواحدة منها دون المجموع، فالخلاف في دلالة المفهوم معروف. وبعض من ينازع في هذه المسألة لا يقول بها، ولو قال بها، رجح عليها دلالة المنطوق في هذا الحديث.
واعلم أن قتل تارك الصلاة كسلًا، وعدمه: مبني على تكفيره، وقد ثبت في كفره ثلاثة أحاديث:
الأول: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بينَ الرجلِ وبينَ الشرِك والكفرِ، تَرْكَ الصلاةِ"(2).
الثاني: عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العهدُ الذي بيننا
(1) رواه البخاري (1335)، كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، ومسلم (20)، كتاب: الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه.
وبينَهم الصلاةُ، فمن تركَها، فقدْ كفرَ" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (1).
الثالث: عن شقيق بن عبد الله التابعي، المتفق على جلالته -رحمه الله تعالى- قال: كان أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال، تركُه كفر، غيرَ الصلاة. رواه الترمذي في كتاب "الإيمان" بإسناد صحيح (2).
فهذه الأحاديث ظاهرها تكفير تارك الصلاة، بوصفه بالكفر. وهو في الشرع: الخروج من الإِسلام، ويؤيد ذلك ما رواه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر الصلاة يومًا، فقال:"مَنْ حافظَ عَلَيْها، كانَتْ لَهُ نُورًا وبُرْهانا ونَجاةً يومَ القيامةِ، ومَنْ لمِ يحافظْ عليها، لَمْ يَكُنْ لَهُ نور ولا بُرهان ولا نَجاةٌ، وكانَ يومَ القيامةِ مَعَ قارون وهامانَ وفرعونَ، وأُبَيٍّ بْنِ خَلَفٍ"(3).
ولا شك أن ترك المحافظة عليها يدل على عدم جحد وجوبها، وأنه يقتضي التهاون والكسل عنها، ولا يحشر يوم القيامة مع صناديد الكفر، الذين أخبر الله عنهم بالخلود في النار إلا كافر.
وبكفره، قال المحدثون، ومنصور الفقيه من الشافعية في كتابه "المستعمل"(4)، وأحمد في المشهور عنه، وبعض أصحاب مالك، وقالوا:
(1) رواه الترمذي (2621)، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في ترك الصلاة، والنسائي (463)، كتاب: الصلاة، باب: الحكم في تارك الصلاة، وابن ماجه (1079)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن ترك الصلاة، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 346)، وابن حبان في "صحيحه"(1454).
(2)
رواه الترمذي (2622)، كتاب: الإيمان" باب: ما جاء في ترك الصلاة، وابن أبي شيبة في "المصنف" (30446)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 905).
(3)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(1467)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 169)، والدارمي في "سننه"(2721)، والطبراني في "مسند الشاميين"(245)، وعبد بن حميد في "مسنده"(353)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2823).
(4)
كتاب: "المستعمل في الفروع" لأبي الحسن منصور بن إسماعيل التميمي الشاعر المتوفى سنة =