الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنْ عَائشِةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن الرَّضَاعَةَ تُحرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ"(1). وَعَنْهَا: أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا آذَنُ لَهُ، حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ أَبَا القُعَيْس لَيسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، قَالَ:"إِئْذَني لَهُ؛ فَإِنَّهُ عَمُّكَ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ".
قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب (2).
وفي لفظ: استأذن عليَّ أفلحُ، فلم آذنْ له، فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلتُ: وكيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأةُ أخي بلبن أخي، قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَني لَهُ"(3).
أما أفلحُ عمُّ عائشةَ رضي الله عنها؛ فكنيته أبو الجعد، وهو أخو أبي القعيس -بضم القاف وفتح العين المهملة، ثم المثناة تحت ساكنة، ثم السين المهملة-، واسمه: وائل بن أفلح. رواه الدارقطني، وأبو عمر النمري الحافظان.
وحكى أبو عمران: أفلح أخو أبي القعيس، من الأشعريين. قال: وقد قيل:
(1) رواه البخاري (2503)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم، ومسلم (1444)، كتاب: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.
(2)
رواه البخاري (4518)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54]، ومسلم (1445)، (2/ 1069)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل.
(3)
رواه البخاري (2501)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم.
إن أبا القعيس اسمه الجعد، ويقال: أفلح، يكنى: أبا الجعد.
وقيل: اسم أبي الجعد وائل بن أفلح. قال: وأفلح ابن أبي القعيس.
ويقال: أخو أبي القعيس، لا أعلم له خبرًا ولا ذكرًا إلا في حديث عائشة رضي الله عنها في الرضاع.
وقد اختلف فيه، فقيل: أبو القعيس، وقيل: أخو أبي القعيس، وقيل: ابن أبي القعيس، وأصحها: ما قاله مالك ومن تابعه عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: جاء أفلح أخو أبي القعيس، هذا كلام أبي عمر النمري. وظاهر أول هذا الحديث المذكور في الكتاب وغيره من الأحاديث الصحيحة أن أفلح وأبا القعيس كانا أخوين لأبي بكر الصديق رضي الله عنه من الرضاعة، فيكونان عمين لعائشة رضي الله عنها كانا صحابيين، ذكرهما في الصحابة أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب"، ويقتضي ذلك أن يكون أبو بكر ارتضع من أمهما.
لكن ظاهر آخر هذا الحديث: أن أبا القعيس أبو عائشة من الرضاع، وأفلح عمها، فيكون عمًّا واحدًا لعائشة، لا عمين. وهو الصواب، والله أعلم (1).
وقولها: "استأذنَ عليَّ بعدَما أُنزلَ الحجابُ"؛ لا شك أن الحجاب نزل سنة خمس من الهجرة في أواخرها؛ فإن أفلح استأذن على عائشة بعد ذلك، وكان حيًّا.
وذكر القاضي عياض رحمه الله: أن أبا القعيس كان ميتًا (2)، فيبعد ما قاله بعضهم: إن أبا القعيس كان عمًّا لعائشة موجودًا وقت الاستئذان عليها، ولأنه لو كان هو المسؤول عنه، لكانت اكتفت بمعرفتها تحريم الدخول لغير العم من الأحاديث في النسب والرضاع عليها، والظهور عليه، فلم تحتج إلى السؤال عنه، لكن لما سألت، دل على أنه أفلح، وأنه غير أبي القعيس.
(1) وانظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 102)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 134)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 597).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 20).
وذلك جميعه دليل على أن أفلح عمها، وأبا القعيس أبوها، وأن أمه أرضعت عائشة رضي الله عنها، وأنهما لم يكونا أخوين لأبي بكر من الرضاع.
وذكر بعضهم: أن عم أبيك من الرضاع عمك.
قلنا: صحيح لو لم تذكر عائشة عن أفلح: ليس هو أرضعني، وإنما أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدل على صحة ما ذكرناه، والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "تَرِبَتْ يَمينك"؛ فمعناه: افتقرت، والعرب تدعو على الرجل؛ ولا تريد وقوع الأمر به. يقال: ترب الرجل: إذا افتقر، وأترب: إذا استغنى (1).
في الحديث دليل: على ثبوت حكم الرضاع بين الرضيع وبين الرجل المنسوب إليه ذلك اللبن، وأن الحرمة تنتشر إلى أولاده وإخوته وأخواته، فيصير أولاد الرجل إخوة الرضيع، وإخوته وأخواته أعمامه وعماته، وتكون الدلالة من باب التنبيه بالأبعد على الأدنى؛ فإن الإخوة أبعد من الأولاد، فإذا كان الأبعد أذن له في الدخول، وحرم عليه النكاح، فالأقرب بطريق الأولى، وتقدم الاختلاف فيه.
وهذا مذهب العلماء كافة، إلا اليسير منهم؛ كعائشة، وابن عمر، وابن الزبير، وأهل الظاهر، وابن بنت الشافعي. وقيل: لم يصح عن عائشة.
قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: نشر الحرمة إلى الفحل خارج عن القياس؛ فإن اللبن ليس ينفصل منه، وإنما ينفصل منها؛ للحديث، والله أعلم.
وفيه دليل: على أن من ادعى رضاعًا، وصدقه الرضيع، ثبت حكم الرضاع بينهما من غير إقامة بنية؛ لأن أفلح ادعاه، وصدقته عائشة رضي الله عنها، وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وفيه دليل: على أن من جهل شيئًا من حكم الشرع، لا يفعل شيئًا من تلبس
(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 120)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 184).