الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: جَعَلَ (1) -وفي لفظ: قَضَى- النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالشُّفْعَة فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَم، فَإذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَة (2).
الشُّفْعَة: مأخوذة من شَفَعْتُ الشيءَ: إذا ضَمَمْته وثبته. ومنه: شفع الأذان، وسميت شفعة؛ لضم نصيب إلى نصيب (3).
ووقع في بعض روايات الحديث: "إنما الشفْعَةُ فِيما لَمْ يقسَم"(4)، و"إنما" دالة على الحصر بالوضع، فتكون دلالتها أقوى من دلالة مفهوم الحديث؛ حيث مقتضاه: أن جعل الشفعة فيما لم يقسم يقتضي أن الشفعة فيما قسم.
ولا شك أن الحكمة في ثبوت الشفعة إزالة الضرر عن الشريك، والضرر تارة يتعلق بجواز المجاورة، وتارة يتعلق بشركته.
أما الأول: فقد نبه صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح بالاستعاذة؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إِنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ جَارِ السوء فِي دَارِ المُقَامَةِ"(5)؛ حيث إنه في دار المقامة
أشد منه في دار الترحال؛ فإن الضرر فيها يزول سريعًا؛ بخلاف دار الإقامة؛ يدوم.
وأما الثاني: وهو تعلُّق الضَّرر بالمشاركة، وهو في العقار أكثر، فلهذا خصَّ
(1) رواه البخاري (2099)، كتاب: البيوع، باب: بيع الشريك من شريكه.
(2)
رواه البخاري (2100)، كتاب: البيوع، باب: بيع الأرض والدور والعروض مشاعًا غير مقسوم، ومسلم (1608)، كتاب: المساقاة، باب: الشفعة، وهذا لفظ البخاري.
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 45).
(4)
لم أجده بهذا اللفظ فيما توافر لدي من المصادر المطبوعة، والله أعلم، وانظر:"تلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 56 - 57)؛ حيث إنه ذكر روايات الشفعة هناك.
(5)
رواه النسائي (5502)، كتاب: الاستعاذة، باب: الاستعاذة من جار السوء، والبخاري في "الأدب المفرد"(117)، وابن حبان في "صحيحه"(1033)، والحاكم في "المستدرك"(1951)، وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الشارع ثبوته فيه دون غيره، ما لم يقسم، ونفاها عند وقوع الحدود، وتصريف الطرق، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: ثبوت الشفعة للشريك في العقار ما لم يقسم، وهذا مجمع عليه عند العلماء.
ومنها: عدم ثبوتها في الحيوان والثياب والأمتعة وسائر المنقول، وهذا متفق عليه عند العلماء.
قال القاضي عياض: وشذ بعض الناس، فأثبت الشفعة في العروض، وهي رواية عن عطاء، قال: يثبت في كل شيء حتى في الثوب، وحكى ذلك رواية عنه ابن المنذر -أيضًا-، وعن الإمام أحمد رواية: أنها تثبت في الحيوان، والبناء المفرد (1).
ولا شك أن ذكر وقوع الحدود وتصريف الطرق يقتضي تخصيص ثبوتها بالعقار دون غيره؛ حيث إن ذلك لا يكون إلا في العقار، مع أنه ثبت التصريح بثبوتها في الحوائط والربوع، وهي العقار، فصدر الحديث المذكور يقتضي ثبوته في المنقولات وغيرها، وسياقه يقتضي عدم ثبوته فيها.
ومنها: أن ثبوتها فيما ذكرنا إنما يثبت فيما يكون قابلًا للقسمة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "في كل مَا لَمْ يُقْسَمْ" يُشعر بأنه لا بدَّ أن يكون قائلًا لها مع رواية: "إنما الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ" المقتضية للحصر، وإن دلالة المفهوم مرجوحة بالنسبة إليها.
ومنها: سقوط الشفعة بمجرد الجوار، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء، وقال به من الصحابة رضي الله عنهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ويحيى الأنصاري، وأبو الزناد، ومن
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 45 - 46).