الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحنث المتعلقة بالمفعول المحلوفِ على تركه مثلًا، وسببُ الحديث الذي ذكرناه يبينه، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَن تَحْلِفُوا بآبَائِكُم".
وَلِمُسلِمٍ: "فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَليَحْلِفْ باللهِ أَوْ لِيَصُمت"(1).
وَفِي رِوَاية: قَالَ عُمَرُ: فَوَاللهِ مَا حَلَفتُ بهَا مُذ سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا (2)؛ يَعنِي: حَاكِيًا عَنْ غَيرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهَا.
واعلم أن سبب النهي: أن قريشًا كانت تحلف بآبائها، وأدرك صلى الله عليه وسلم عمرَ رضي الله عنه في ركب وهو يحلفُ بأبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ ينهاكم"، الحديث.
والحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى: أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقةُ العظمةِ لله تعالى، لا يشاركه فيها أحد، ولهذا قال سبحانه وتعالى في الأحاديث الصحيحة المروية عنه -سبحانه-:"العَظَمَةُ إِزاري، والكِبْرِياءُ رِدائي، فَمَنْ نازَعَني فيها، عَذَّبْتُهُ"(3)، وإذا كان كذلك، فلا يضاهى بالتعظيم غيرُه سبحانه وتعالى.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لأَنْ أحلفَ بالله مئة مرة فآثم، خيرٌ من أن أحلفَ بغيره فَأَبَرَّ (4).
(1) رواه البُخَارِيّ (5757)، كتاب: الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأَولًا أو جاهلًا، ومسلم (1646)، (3/ 1267)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى.
(2)
رواه البُخَارِيّ (6271)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بآبائكم، ومسلم (1646)، (3/ 1266)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 203)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 105)، و"فتح =
ولا شك أن الله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ تنبيهًا على شرفها، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بعمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وأقسم بالعصر، وبالشمس وضحاها، وبالقمر، وبغير ذلك مما في الكتاب العزيز؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى العظيم المطلق، يحكم ولا يُحكم عليه، فله أن يقسم بما شاء، والعباد متصرَّفٌ فيهم مقيدون، فلا يقسمون إلَّا بما أذن لهم فيه، وهو الحلف بأسماء الذات والصفات العلية كما قاله العلماء.
فإن قيل: هذا الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ"(1) فقد أقسم بأبيه.
والجواب: أن هذه كلمة تجري على اللسان لا يُقصد بها اليمين.
وأما معنى قول عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها بعد النهي ذاكرًا؛ أي: قائلًا لها من قبل نفسي، ولا آثرًا -بمد الهمزة-؛ أي: أروي عن غيري أنَّه فعله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمنْ كانَ حالِفًا، فليحلف بالله أو ليصمُتْ"؛ معناه: أن الحلف لا يكون إلَّا بالله، فمن أقسم، فليقسم به سبحانه وتعالى، وإلا فليصمت.
وظاهر الأمر بالصُّمات: الوجوب، ومخالفته التحريم، ويؤيد ذلك ما رواه التِّرْمِذِيّ وغيره: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: قال: "من حلفَ بغيرِ اللهِ فقدْ أشركَ"(2)، لكن قال أصحاب الشَّافعيّ وغيره: هو مكروه، ليس بحرام، وقال غيرهم: هو حرام، والخلاف في ذلك موجود عند المالكية، والله أعلم.
= الباري" لابن حجر (11/ 535).
(1)
تقدم تخريجه في حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في قصة الرَّجل الذي وإن يسأل عن الإِسلام.
(2)
رواه التِّرْمِذِيّ (1535)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وقال: حسن، وأبو داود (3251)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، والامام أَحْمد في "المسند"(2/ 69)، وابن حبان في "صحيحه"(4358)، والحاكم في "المستدرك"(7814)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: المنع من الحلف بغير الله عز وجل، واليمينُ منعقدة عند الفقهاء باسم الذات والصفات العلية.
ومنها: إباحة الحلف بالله تعالى.
قال العلماء: إلَّا أن يقترن به مقصود شرعي؛ من تفخيم لأمر، أو تنبيه عليه بفهم أو معرفة رتبة، أو نحو ذلك، فيكون مستحبا، وعلى هذا ينزل ما ثبت في الأحاديث الصحيحة من الحلف، والله أعلم.
ومنها: منع الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته، وكلٌّ مجمع عليه، والله أعلم.
واعلم أن الأقسام ثلاثة أنواع:
الأول: ما يباح به اليمين من أسماء الله عز وجل وصفاته، كما ذكرنا.
الثاني: ما يحرم به اليمين بالاتفاق؛ كالأنصاب، والأزلام، واللات، والعزى، وكذلك الحلف بنعمة السلطان، وحياتك، وتربة الشَّهيد، وكذلك إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، والكعبة، قاصدًا بذلك التعظيم، كله حرام.
وقال بعض المالكية في اللات والعزى والأنصاب والأزلام: إن قصد تعظيمها، فهو كفر، وإلا فحرام، ولا شك أن القسم بالشيء تعظيم له، وسيأتي حديث يدل على إطلاقه على الكفر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"من حلفَ على يمينٍ بملَّةٍ غيرِ الإِسلامِ كاذبًا متعمَّدًا، فهو كما قالَ"(1).
وقد روى مسلم في "صحيحه": أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من حلفَ فقالَ في حلفِه: باللَّاتِ والعزَّى، فليقلْ: لا إلهَ إلَّا الله"(2).
(1) سيأتي تخريجه في أحاديث باب الأيمان.
(2)
رواه مسلم (1647)، كتاب: الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلَّا الله، والبخاري أَيضًا (6274)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وإنما أمر بقوله: إلَّا إله إلَّا الله"؛ لأنه تعاطى بحلفه صورة تعظيم الأصنام حتَّى حلف بها.
قال أصحاب الشَّافعيّ: إذا حلف باللات والعزى، أو غيرها من الأصنام، أو قال: إن فعلت كذا، فأنا يهودي أو نصراني، أو بريء من الإِسلام، أو بريء من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أو نحو ذلك، لم تنعقد يمينه، بل عليه أن يستغفر الله تعالى، ويقول: لا إله إلَّا الله، ولا كفارةَ عليه، سواءٌ فعله أم لا.
وبعدم الكفارة في ذلك قال الشَّافعيّ ومالك وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة: تجب الكفارة في كل ذلك، إلَّا في قوله: أنا مبتدع، أو بريء من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أو حلف باليهودية.
واحتج بأن الله عز وجل-أوجب على المظُاهِرِ الكفارةَ؛ لأنه منكَر من القول وزور، والحلفُ بهذه الأشياء منكَر وزور.
واحتج الشافعية والجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم الحديث: "فليقلْ: لا إله إلَّا الله"، ولم يذكر كفارة، والأصلُ عدمُها حتَّى يثبت بها شرع.
وأما قياسه على الظاهِر، فهو منتقض بما استثناه من قوله: أنا مبتدع، أو أنا بريء من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أو حلف باليهودية، فإنَّه لم توجب فيها كفارة، والله أعلم.
النوع الثالث: ما يختلف فيه التحريم والكراهة، وهو ما عدا ذلك؛ مما لا يقتضي تعظيمه كفرًا، والله أعلم.
ومنها: المبالغة في الاحتياط في الكلام، بألَّا يحكي قول الغير الذي منع الشرع منه؛ لئلا يجري على اللسان ما صورته صورة الممنوع شرعًا، ومن هذا حكاية المذاهب الباطلة من غير ذكر الدليل على بطلانها، وتقبيح قولها واعتقادها، خصوصًا إذا هجرت ونسيت وماتت، فلا تحكى؛ فإنَّها تنبه أهل الباطل على مضاهاتهم لأهل الحق، وأن لهم صورة ومقابلة، فليتفطن لما نبهت عليه؛ فإنَّه جليل عزيز.
ومن عرف الأشياء وأضدادها، وما يترتب عليها من الفساد، ودخول الشبه