الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحكمة في جوازه: ما فيه من البرودة، والبرودة تدفع القمل، وتمنع من الحكة، فالرخصة وقعت للمداواة؛ بخلاف غيرهما؛ فإنها وقعت للضرورة.
وقال مالك: لا يجوز لبسه للحكة والقمل، والأحاديث في الكتاب وغيره حجة عليه، حتى عدوها إلى غيرهما.
ولا شك أن الراوي سمى لبس الحرير رخصة في هذا الحال مع قيام دليل الحظر.
واختلف أصحاب الشافعي في جواز لبس الحرير للحكة ونحوها في السفر والحضر جميعًا، وعدم جوازه، فجمهورهم على الجواز، وقال بعضهم: يختص بالسفر، وهو ضعيف؛ حيث إن الرخصة معقولة متعدية عند العلماء، وصادف السؤال عنها والترخيص في السفر والغزو، لا لتقييدها بهما، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث عشر
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطابِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَني النَّضِيرِ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَالِصًا، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْزِلُ نَفَقَةَ أهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل (1).
كانت غزوة بني النضير في سنة أربع من الهجرة.
وقريظة والنضير: قبيلتان من اليهود، وكان صاحب عهد بني قريظة كعب بن أسد، وكان حيي بن أخطب من سادات بني النضير، ونقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون، وقال:"حاربَتْ يَهودُ" في قصة طويلة (2).
(1) رواه البخاري (4603)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6]، ومسلم (1757)، كتاب: الجهاد والسير، باب: حكم الفيء.
(2)
انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 57).
وقوله: "مما لم يُوجِفِ المسلمونَ عليه بخيلٍ ولا رِكاب"؛ الإيجاف: الإسراع. يقال: وجفَ الفرسُ والبعير، بجف وَجِيفًا: أسرع. وأوجفه صاحبه: إذا حمله على السير (1).
والركاب: الإبل خاصة.
وقوله: "وكانتْ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالصًا"؛ معناه: أن أموال بني النضير كان معظمها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كلها؛ حيث إن له صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه أربعة أخماسه، وخمس الخمس الباقي، فيكون له أحد وعشرون سهمًا من خمسة وعشرين سهمًا، والأربعة الباقية لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وقوله: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعزلُ نفقةَ أهلِه سنةً"؛ يعني أنه صلى الله عليه وسلم لما كانت أموال بني النضير له خالصًا، واتسع عليه الحال، ادخر لعياله قوت سنة، أو نفقة سنة؛ تطييبًا لقلوبهم، ولاتساع الحال عليه وعلى المسلمين في سنة أربع من الهجرة. وإلا فقد كان حاله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أنه لا يدخر لغد شيئًا؛ ثقة بالله عز وجل، وتوكلًا عليه، ولضيق الحال عليه وعلى المسلمين.
وهذا كله دليل على مراقبته صلى الله عليه وسلم لأمر ربه سبحانه وتعالى في خلقه، من العيال الأقارب والأتباع الأجانب.
وكان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنى الصوري المعنوي، وكان صابرًا لأحكام الله تعالى غنيًّا به صلى الله عليه وسلم سبحانه وتعالى، [شاكرًا](2) حامدًا له على البأساء والضراء، والشدة والرخاء، ولهذا كان يحمد ربه سبحانه وتعالى على كل حال، لما علم أنه ملطوف به مختار له مربوب، وأن اختيار الحق له صلى الله عليه وسلم خير من اختياره لنفسه، مع أنه صلى الله عليه وسلم عُرضت عليه كنوزُ الأرض فأباها، فكان فقره صلى الله عليه وسلم اختيارًا لا اضطرارًا أصليًّا، بل اضطرارٌ عن اختيار.
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 156)، و"لسان العرب" لابن منظور (9/ 352)، (مادة: وجف).
(2)
ليست في "ح".
وهذا هو الغنى الذي وصفه صلى الله عليه وسلم، وأثبته في الصحيح؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ليسَ الغِنى عن كثرة العَرَضِ؛ إنَّما الغِنى غِنى النفس"(1).
فافهم ما تحقق في هذه المسألة من الشرع الصحيح والتحقيق المليح، ودع عنك ترهات التحقيق، وتعويجات الطريق! والله أعلم.
وقوله: "ثم يجعلُ ما بقي في الكُراع والسلاح عدةً في سبيل الله عز وجل":
الكُراع بضم الكاف، والأكارع من ذوات الظلف خاصة؛ كالأوظفة من الخيل والإبل، ثم أكثر ذلك استعمالًا، حتى سميت الخيل كراعًا.
قال صاحب "المجرد": والكراع: اسم لجميع الخيل، إذا قلت: الكراع والسلاح، وقال غيره: ثم استعمل ذلك في الخيل خاصة (2).
وأما السلاح؛ فقال الجوهري: هو مذكر، ويجوز تأنيثه، وقال غيره: هو ما أعددته من السلاح للحرب؛ من آلة الحديد مما يقاتل به، والسيف وحده يسمى سلاحًا (3).
والعدة في سبيل اله تعالى: إعداد الشيء بقصد الطاعة لله تعالى في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
فكأنه صلى الله عليه وسلم جعل ما فَضَلَ مما كان خالصًا به من الفيء في الخيل والسلاح؛ إعدادًا للجهاد في سبيل الله تعالى، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: ما أكرم الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم من خصائص الدنيا والآخرة، وتقديمه صلى الله عليه وسلم. بها في جميع الخلق.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 339)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 167)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 292).
(3)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 486)، (مادة: سلح).
ومنها: أن حكم أموال الفيء كان خاصًّا به صلى الله عليه وسلم في حياته، يضعه حيث شاء، وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم، ويجعل ما بقي في سبيل الله تعالى إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء في مصرف الفيء بعده صلى الله عليه وسلم:
فقال قوم: هو للأئمة بعده.
واختلف قول الشافعي على قولين:
أحدهما: للمقاتلة.
والثاني: لمصالح المسلمين، ويبدأ بالمقاتلة، ثم بالأهم فالأهم من المصالح.
وهل يخمس كالغنيمة؟ فيه خلاف: والأكثرون: أنه لا يخمس، بل مصرف جميعه واحد، ولجميع المسلمين فيه حق، والله أعلم.
ومنها: جواز الادخار للنفس والعيال قوت سنة؛ فإن ذلك غير قادح في التوكل، وفعلُه صلى الله عليه وسلم ذلك لم يكن لنفسه، بل كان للعيال؛ تطييبًا لقلوبهم وسكونها، وجمعِها على ما هم بصدده، حتى إنه لم يدم ما يدخره عنده سنة، بل كان ينفد قبل انقضائها؛ بصرفه في وجوه الخيرات، ولهذا توفي صلى الله عليه وسلم ودرعُه مرهونة على شعير استدانه لأهله، ولم يشبع ثلاثة أيام تباعًا. وقد ثبت في "الصحيحين" كثرةُ جوعه صلى الله عليه وسلم وجوع عياله.
وأجمع العلماء على جواز ادخار ما يستغله الإنسان من أرضه وزراعته مما لم يشتره من السوق، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيما يستغله من مزارعه.
واختلفوا في ادخار قوت سنة من السوق: فأجازه قوم، واحتجوا بهذا الحديث، ولا حجة فيه، ومنعه الأكثر، إلا على قدر ما لا يضر بالسعر.
وهذا الاختلاف إذا كان وقت السعة، أما في وقت ضيق الطعام على المسلمين؛ فتتعين المواساة في الادخار وغيره، بيعًا وشراء وإباحة، والله أعلم.