الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال لهم أبو هريرة رضي الله عنه ذلك ردًّا لِمَا فهموه من أنَّ الأمر للندب لا للإيجاب، والله أعلم.
ومنها: المبادرة إلى العمل بالسُّنَّة ندبًا كانت أو وجوبًا.
ومنها: وجوب إظهار العلم والتكلم به، سواء عمل به، أو لم يعمل به؛ فإن المطلوب منه إبلاغه، والعمل به، فإذا فات العمل، لم يفت الإبلاغ.
ومنها: أن العالم إذا فهم من أصحابه الإعراض عن السنة والعمل بها، أن يعلمهم بما فهمه منهم، ويغلظ عليهم في القول، سواء كان الإعراض بالفعل، أو القول، أو بالحال.
ومنها: إقامة الحجة على المخالفين، وإظهارها لهم؛ لبراءة الذمة منها، والله أعلم.
* * *
الحديث الثَّاني عشر
عَنْ عَائشِةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ، طَوَّقَهُ اللهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"(1).
أَمَّا قولُه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ"؛ فالقِيد: بكسر القاف وإسكان الياء؛ أي: قدر شبر، يقال: قِيد وقَاد وقِيس وقاس، بمعنى واحد، وقيده بالشبر؛ للمبالغة والتنبيه على ما زاد عليه؛ فإنَّه أَولى منه (2).
وقولُه: "طَوَّقَهُ"؛ أي: جعل له طوقًا في عنقه، كالغُلِّ، كما قال سبحانه وتعالى:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]، وقيل: معناه: أنه يطوق إثم ذلك، ويلزمه كلزوم الطَّوق في العنق، فعلى المعنى الأول،
(1) رواه البُخاريّ (2321)، كتاب: المظالم، باب: إثم من ظلم شيئًا من الأرض، ومسلم (1612)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها.
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 50).
يطول الله في عنقه، كما جاء في غلظ جِلْد الكافر وعِظَم ضِرْسِه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"؛ الأَرَضُون: بفتح الراء، ويجوز إسكانها في لغة حكاها الجوهري وغيره، وهذا الحديث مصرِّح بأنَّ الأَرَضينَ سبعُ طبقات (1)، وهو موافق لقول الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12].
وأمَّا تأويل المثلية على الهيئة والشكل، فخلاف الظاهر، وكذا قول من قال: المراد بالحديث: سبع أرضين من سبع أقاليم؛ لا أن الأرضين سبع طبقات، وهو تأويل باطل أبطله العلماء بأنه لو كان كذلك، لم يطوق الظالم الشبر من هذا الإقليم شيئًا من إقليم آخر؛ بخلاف طباق الأرض؛ فإنَّها تابعة لهذا الشبر في الملك، فمن ملك شيئًا من هذه الأرض، ملكه وما تحته من الطباق.
قال القاضي عياض رحمه الله: وقد جاء في غلظ الأرضين وطباقهن وما بينهن حديث ليس بثابت، والله أعلم (2).
وفي هذا الحديث دليل: على تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته.
وفيه دليل: على إمكان غصب الأرض، وهو مذهب الشَّافعي وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يتصور غصب الأرض.
وفيه تنبيه: على أن من ملك أرضًا يملكها إلى قرارها، وهذا لا خلاف فيه، كما يملك الهواء تبعًا للملك.
وفيه دليل: على أن بعض العقوبات تكون من جنس المعاصي في الصورة، أو أزيدَ؛ للتنفير عن المعصية، وهذه العقوبة مقيدة بعدم التوبة من هذه المعصية، فأمَّا من تاب منها بشروطها، وردَّ الظلامة، أو التحللَ من أربابها منها، فلا تطويقَ عليه، والله أعلم.
* * *
(1) المرجع السابق: (11/ 48).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.