الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العِدَّة
الحديث الأول
عَنْ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ رضي الله عنها: أَنَّها كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، وَهُوَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ. فَلَمَّا تَعَلَّت مِنْ نِفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ [-رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ-](1)، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُريدين النِّكَاحَ، وَاللهِ مَا أَنْتِ بِنَاكحٍ حتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأفْتَانِي بِأنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَني بِالتزوُّجِ إنْ بَدَا لي.
قَالَ ابنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأسًا أَنْ تَتَزوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ، إنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا، غَيْرَ أنَّهُ لَا تقْرَبُها زَوْجُهَا حَتى تَطْهُرَ (2).
أما سبيعة، فهي بضم السين المهملة، وفتح الباء الموحدة. وهي بنت الحارث الأسلمية.
(1) ما بين معكوفين ساقط من "ح".
(2)
رواه البخاري (3770)، كتاب: المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا، ومسلم (1484)، كتاب: الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل، وهذا لفظ مسلم.
روي لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر حديثًا. روى عنها عمر بن عبد الله بن الأرقم.
قال أبو عمر بن عبد البر: روى عنها فقهاء أهل المدينة، وفقهاء أهل الكوفة من التابعين حديثها هذا؛ يعني: حديثها هذا المذكور: أنها كانت تحت سعد بن خولة.
قال: وروى عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ استطاعَ منكُمْ أَنْ يموتَ بالمدينةِ، فَلْيَمُتْ؛ فَإنَّهُ لا يموتُ بِها أَحَدٌ؛ إلا كُتِبَ له شَهيدًا، أو شَفيعًا يومَ القِيَامَةِ"(1).
قال: وزعم العقيلي أن سبيعة التي روى عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هي غير الأولى، ولا يصح ذلك عندي. هذا آخر كلامه.
روى لها البخاري ومسلم، وجماعة من أصحاب السنن والمساند، ولم يرو لها الترمذي، والله أعلم.
وأما وضعُها حملَها، فكان بعد وفاة زوجها بليالٍ؛ قيل: إنها شهر، وقيل: خمس وعشرون ليلة، وقيل دون ذلك، والله أعلم (2).
وأما سعد بن خولة؛ فتقدم ذكره في باب الوصية.
وأما أبو السنابل -بفتح السين-، فاسمه لبيد، ربه، سُئل يحيى بن معين عن اسمه، فقال: بغيض سئل عن بغيض لبيد ربه، وقيل: اسمه عمرو، وقيل: حبه -بالباء الموحدة، وقيل: بالنون- ابن بعكك -بفتح الموحدة وسكون العين المهملة ثم كافين، الأولى مفتوحة- بن الحجاج بن الحارث بن السباق بن
(1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(3275)، والطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 294)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4184).
(2)
وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 287)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 2859)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 138)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 612)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 193)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 690)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 453).
عبد الدار بن قصي، القرشي العبدري. أسلم يوم الفتح، وقيل: إنه سكن الكوفة، روى عنه الأسود بن يزيد النخعي.
قال الترمذي: لا نعرف للأسود سماعًا من أبي السنابل. وسمعت محمدًا -يعني: البخاري- لا أعرف أن أبا السنابل عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن سعد أنه بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى له الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
وقال ابن عبد البر الحافظ: كان شاعرًا، ومات بمكة (1).
وأما ابن شهاب؛ فهو منسوب إلى جد جده، وهو أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب القرشي الزهريّ المدني، سكن الشام، سمع أنسًا، وسهل بن سعد، وأبا الطفيل عامر بن واثلة، والسائب بن يزيد، وسنينًا أبا جميلة، وعبد الرحمن بن أزهر، وربيعة بن عباد الديلي، ومحمود بن الربيع، ورجلًا مزيلي صحبة. ورأى عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وعبد الله بن ثعلبة بن صغير، وأبا أمامة بن سهل بن حنيف، وخلقًا كثيرًا من التابعين وغيرهم.
قال عراك بن مالك: أعلمهم جميعًا -يعني: ابن المسيب، وعروة، وعبيد الله بن عبد الله- عندي: محمد بن شهاب؛ لأنه جمع علمهم إلى علمه، وكان إمامًا جليلًا فقيهًا فاضلًا، ناشرًا للعلم باذلًا له، مات ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، سنة أربع وعشرين ومئة في ناحية الشام، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق بضيعة له، يقال لها:
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 449)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 387)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 89)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1684)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 152)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 522)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 385)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 190)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 132).
شَغْب، وبدا، وشغب: بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين، وبدا: بالباء الموحدة والدال المهملة.
وروى له البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمساند (1).
أما ما ذكر [عن] سعد بن خولة: وهو في بني عامر بن لؤي، فهو هكذا في جميع النسخ: في بني عامر، وهو صحيح، ومعناه: ونسبه في بني عامر؛ أي: هو منهم.
وذكر الحافظ أبو القاسم بن بشكوال: أن زوج سبيعة كان أبا البداح بن عاصم بن عدي الأنصاري. قال: حكى ذلك أبو عمر النمري عن ابن جريح والخُطاب: كهل، وشابّ، فالكهل: أبو السنابل، والشاب: أبو اليسر، والله أعلم (2).
وقوله: "فلم تَنْشَب"؛ أي: لم تمكث.
"فلما تَعَلَّتْ من نِفاسِها"؛ معناه: طهرت من نفاسها.
وفي الحديث أحكام:
منها: أن عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا، بوضع الحمل، حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة قبل غسله، انقضت عدتها، وحلت في الحال للأزواج. وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، والعلماء كافة، إلا رواية عن علي، وابن عباس، وسحنون المالكي: أن عدتها بأقصى الأجلين؛ فإن تقدم وضع الحمل على تمام أربعة أشهر وعشر، انتظرت وضع الحمل. وروي عن ابن عباس الرجوع عنه. وتصحيح ذلك: أن أكابر أصحابه
(1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 220)، و"الجرح والعديل" لابن أبي حاتم (8/ 71)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 349)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 360)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 77)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 105)، و "تهذيب الكمال" للمزي (26/ 419)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 326)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 108)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 395).
(2)
انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 167).
يقولون يقول العلماء: حتى لو وضعت بعد موته بساعة، انقضت؛ كعطاء، وعكرمة، وجابر بن زيد.
وسبب هذا الخلاف تَعارُضُ عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية [البقرة: 234] مع قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]؛ فإن كل واحد من الاثنين: عام من وجه، خاص من وجه.
فعموم الأولى، وهو المتوفى عنها زوجها، سواء كانت حاملًا أم لا.
والثانية وهي: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] سواء كانت المرأة متوفى عنها زوجها أم لا.
فلعل هذا التعارض، هو السبب لاختيار من اختار أقصى الأجلين؛ لعدم ترجيح أحدهما على الآخر عنده، وذلك يوجب ألا يرفع تحريم العدة السابق إلا بيقين الحل، وذلك بأقصى الأجلين. لكن فقهاء الأمصار اعتمدوا على هذا الحديث؛ فإنه مخصص لعموم قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234]، مع ظهور المعنى في حصول المراد بوضع الحمل.
ومنها: أن المعتدة تنقضي عدتها بوضع الحمل، إن لم تطهر من النِّفَاسِ؛ كما صرح به الزهريّ، وهو مقتضى قولها: فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي.
وقال الشعبي، والحسن، وحماد، وإبراهيم النخعي -فيما روي عنهم-: لا يصح زواجها حتى تطهر من تفاسها؛ متعلقين بقوله: "فلما تعلَّتْ من نِفاسها"؛ أي: طهرت، قال لها: قد طهرت، انكحي من شئت.
رتب الحل على التعلِّي، فتكون علة له، وهو ضعيف؛ لتصريح الرواية بأنه أفتاها بالحل بوضع الحمل على أي وجه كان؛ من مضغة أو علقة، أو استبان فيه الخلق أم لا؛ حيث رتب الحل على وضع الحمل من غير استفصال، وترك الاستفصال في قضايا الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال.
قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: وهذا -ها هنا- ضعيف؛ لأن الغالب هو الحمل التام المتخلق، ووضع المضغة والعلقة
نادر، وحمل الجواب على الغالب ظاهر، وإنما يقوي تلك القاعدة؛ حيث لا يترجح بعض الاحتمالات على بعض، ويختلف الحكم باختلافها (1).
قلت: والقائلون بانقضاء العدة بوضع الحمل لم يختلفوا في انقضائها بوضع الحمل، سواء كان كاملًا، أم ناقص الخلق، أم مضغة، أو علقة، أو كان فيه صورة خلق آدمي، سواء كانت خفية تختص النساء بمعرفتها، أم جلية يعرفها كل أحد، بخلاف القطعة من اللحم إذا لم يتصور فيها خلق آدمي؛ ففيها خلاف، والله أعلم.
وقول ابن شهاب: "غيرَ أنه لا يطؤها زوجها حتى تطهر"؛ معناه: أن زواجها بعد وضع الحمل صحيح، وأن وطأها حال النفاس حرام؛ كغيرها، وهو مجمع عليه، والله أعلم.
ومنها: جواز تجمل المرأة للخطاب، بشرط ألَّا يكون فيه زور في ملبس أو خلق؛ من تفليج سن، أو وصل شعر، أو تحمير وجنة، أو كثرة مال، أو غير ذلك مما يُرَغِّب في نكاحها عادة؛ فإنه كذب وغش، والله أعلم.
ومنها: أن النكاح لا يجب على المرأة؛ لأمره صلى الله عليه وسلم لسبيعة به إن بدا لها، فلو كان محتمًا من جهة الشرع، لم يقيده باختيارها.
ومنها: التوقف عن الأمر حتى تراجع الشرع والأمر به.
ومنها: الفتيا في العلم، وأنها واجبة إذا تعينت.
ومنها: أن الإنسان إذا رأى من غيره ما يخالف العادة، وكان في ظنه أنه لا يجوز، لا بأس أن يتكلم بما في ظنه، وإن كان الشرع على خلافه؛ حيث إنه قصد خيرًا.
ومنها: أن المرأة تخرج في حاجتها ليلًا ونهارًا، إذا لم يكن لها من يقوم مقامها فيها، وأن الليل أولى لذلك إن لم يترتب عليه مفسدة، والله أعلم.
* * *
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام"(4/ 60).