الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما داود، فقال العلماء: ناقض داود مذهبه في شرطه الولي في البكر دون الثيب؛ لأنه إحداث قول في مسألة مختلَف فيها، لم يسبق إليه؛ ومذهبه: أنه لا يجوز إحداث مثل هذا.
* * *
الحديث العاشر
عَنْ عَائشِةَ رضي الله عنها قالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي رفَاعَةَ القُرَظِيِّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلَاقِي، فتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّما مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"تُرِيدينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟! لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"، قَالَتْ: وَأَبُو بكرٍ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعيدٍ بِالبَاب يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلَا تَسْمَعُ هَذِهِ وما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟! (1).
أما عائشة؛ فتقدَّم الكلام عليها.
أَمَّا امرأةُ أَبي رِفاعة؛ فهي صحابية، واختُلف في اسمها على أربعة أقوال، والمشهور: أنها تَميمة -بفتح التاء-، والثاني: تُميمة -بضمها-، والثالث: سهيمة، والرابع: عائشة.
ذكر القول الأول والثالثَ: الخطيبُ البغدادي في "مبهماته"، وقال: بنت وهب بن عبيدة، وذكر الثاني، والرابع: شيخُنا الحافظ أبو زكريا النووي، ولم يذكر ابن بشكوال في "مبهماته" غير الثاني، وهي تُميمة، -بضم التاء-، وقال: بنت وهب، كذا في "الموطأ".
وقال أبو عمر النمري الحافظ: تميمة بنت وهب، لا أعلم لها غير قصتها مع رفاعة بن شموال؛ حديث العسيلة من رواية مالك في "الموطأ"(2).
(1) رواه البخاري (2496)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة المختبي، ومسلم (1433)، كتاب: النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره.
(2)
وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 457)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر =
وأَمَّا رِفَاعَة القُرَظيُّ: فهو صحابي، وهو ابن شموال، ويقال: ابن رفاعة، من بني قريظة، روي عنه أنه قال: نزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} الآية [القصص: 51] في عشرة، أنا أحدهم، وهو مذكور في الحديث (1).
وأَمَّا القُرَظي: بضمِّ القاف وفتح الراء وبالظاء المعجمة، ثم ياء النسب، فهي نسبة إلى قُريظة، وهي اسم رجل ترك أولادُه قلعة حصينة بقرب المدينة، فنسبت إليهم، وقُريظة والنضير أخوان من ولد هارون النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم (2).
وأَمَّا عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ الزَّبِيرِ، فهو صحابي، وأبوه الزبِير: بفتح الزاي، وكسر الباء، بلا خلاف، قُتل كافرًا يهوديًّا في غزوة بني قريظة. والزَّبير هو ابن باطا، وقال ابن عبد البر: ابن باطيا، وهو الذي قالت فيه امرأته تميمة: إنما معه مثل هُدبة الثوب، وكان تزوجها بعد رفاعة بن شموال، وأعرض عنها، ولم يستطع أن يمسها، فشكته في الحديث.
كذا ذكره غيره من المحققين، وذكر عبدَ الرحمنِ بنَ الزبير: ابنُ منده، وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما "معرفة الصحابة"، وقالا: إنما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، قال شيخنا الحافظ أبو زكريا النووي رحمه الله: والصواب: الأول (3).
= (4/ 1798)، و"غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 622)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 43)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 631)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 545).
(1)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(9/ 2987)، والطبراني في "المعجم الكبير"(4564).
(2)
وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 492)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 125)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 500)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 283)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 189)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 491).
(3)
وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 833)، و "الإكمال" لابن ماكولا (4/ 166)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 442)، و "تهذيب الأسماه واللغات" للنووي =
وأَمَّا خَالِدُ بنُ سَعيد؛ فكنيته: أبو سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، القرشيُّ، الأمويُّ، أسلم قديمًا بعد أبي بكر الصديق. وقال ضمرة بن ربيعة: كان إسلام خالد مع إسلام الصديق، وقيل: كان ثالثًا أو رابعًا، وقيل: خامسًا، قالت أم خالد: تقدمه ابن [أبي] قحافة، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وسعد بن أبي وقاص.
وقال ابن حبان: وقد قيل: إنه أسلم قبل أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لرؤيا رآها في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمُّه من خزاعة، هاجرَ إلى أرض الحبشة هو وأخوه عمرو بن سعيد، وأقام خالد بها بضع عشرة سنة، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكلم المسلمين، فأسهموا له ولمن معه، ثم رجعوا معه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأقاموا بها، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القضية، وفتح مكة، وحنينًا، والطائف، وتبوك، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات اليمن، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باليمن، وكان قدومه من أرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات مذحج، وعلى صنعاء اليمن.
وقال ابن حبان: واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني زبيد، وهو أول من كتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وكان سبب إسلامه أنه رأى في النوم: أنه وقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به، وكان أباه يدفعه فيها، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحقويه لا يقع فيها، ففزع، وقال: أحلف بالله! إنها لرؤيا، ولقي أبا بكر بن أبي قحافة، فذكر ذلك له، فقال أبو بكر: أُريد بك خير، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، وإنك ستتبعه في الإسلام الذي يحجزك أن تقع فيها، وأبوك واقع فيها، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجناد، فقال: يا محمد! إلى من تدعو؟ قال: "أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله،
= (1/ 276)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 94)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 305)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 155).
وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضرُّ ولا ينفع، ولا يدري من عَبدَه ممَّن لم يعبده"، قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، في قصة جرت له مع أبيه، وتغيب عنه، والله أعلم.
قتل خالد بأجنادين، قبل وفاة أبي بكر رضي الله عنه بأربع وعشرين ليلة، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وقيل: قتل بمرج الصفر، في خلافة عمر، سنة أربع عشرة شهيدًا (1).
وأَجنادين: بفتح الهمزة، وقيل: بكسرها، والله أعلم.
قولُها: "فَطَلَّقَنِي فبَتَّ طَلَاقِي"؛ معناه طلقني ثلاثًا، ويحتمل من حيث اللفظ أن يكون قولها: فبت طلاقي: أن يكون بانقطاع آخر طلقة، ويحتمل أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث، ويحتمل أن يكون بإحدى الكنايات التي تحمل على البينونة عند جماعة من الفقهاء، وليس في اللفظ عموم، ولا إشعار بأخذ هذه المعاني، وإنما يؤخذ ذلك من أحاديث أخر تبين المراد.
ومن احتجَّ بهذا الحديث على شيء من هذه الاحتمالات، لم يصب؛ لأنه إنما دل على مطلق البتِّ، والدليل على المطلق لا يدل على أحد قيديه بعينه، لكن سياق الحديث يدلُّ على أنه طلقها ثلاثًا؛ بقوله صلى الله عليه وسلم:"أَتُحِبِّينَ أَنْ تَرْجِعي إِلَى رِفَاعَةَ؟! لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" الحديث.
وقولُها: "إِنَّما مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ"؛ الهُدْبة -بضم الهاء، وإسكان الدال-، وهو طرفه الذي لم ينسج، شبهوا الهدبة بهدب العين، وهو شعر جفنها.
(1) وانظر ترجمته فيِ: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 94)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 152)، و "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 387)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 334)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 103)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 277)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 420)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 67)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 124)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 259)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 236).
وقال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد رحمه الله: فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون شبهته بذلك لصغره.
والثاني: أن تكون شبهته لاسترخائه وعدم انتشاره، والله أعلم (1).
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "أَتَحِبيِّنَ أَنْ تَرْجِعي إلَى رِفَاعَةَ؟ " لما ذكرت زوجها عبدَ الرحمن بنَ الزبير، وما يتعلق به من هدبة الثوب، فهم عنها إرادة فراقه؛ حيث إن المرأة ذكرت بالكناية بما يمنعها من الدوام معه، والرجوع إلى رفاعة، فقال صلى الله عليه وسلم "لا"؛ أي: ذلك لا يحصل لك، على تقدير أن يكون الأمر كما ذكرت.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"؛ في تأنيث العُسيلة أربعة أقوال: أحدها أن العسل يذكر ويؤنث، فمن أَنَّثه قال في تصغيره: عُسيلة. وقيل: أُنِّثَ على معنى النطفة، أو على نية اللذة، أو أراد قطعة من العسل، واستعمال لفظ العسيلة فيما ذكرنا مجاز، إما من اللذة، وإما من مظنتها، وهو الإيلاج على مذهب جمهور الفقهاء، الذين يكتفون بتغييب الحشفة.
وأضعف الأقوال قول من قال: العسيلة على أنها أنثت على معنى النطفة؛ حيث إن الإنزال لا يشترط (2).
وتبسُّمه صلى الله عليه وسلم تعجُّب من جهرها وتصريحها بأمر تستحيي النساء من ذكره في العادة، أو لرغبتها في زوجها الأول، وكراهة الثاني.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: أن المبتوتة بالطلاق الثلاث لا تحلُّ لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، وهو صريح القرآن العزيز.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" له (4/ 40).
(2)
انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 330)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 101)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 237)، و "لسان العرب" لابن منظور (11/ 445)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 2 - 3).
ومنها: أن المراد بنكاح الثاني: العقد والوطء، هذا قول جميع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وانفرد سعيد بن المسيب، فلم يشترط الوطء، كما حمل قوله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، على العقد دون الوطء، وكما حمل قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] على العقد؛ وقال: النكاح حقيقة في العقد، وتقدم اختلاف الفقهاء في ذلك في أول كتاب النكاح، وهذا الحديث حجة عليه، ومخصص بعموم الآية، ومبين للمراد بها، ولعل سعيدًا لم يبلغه الحديث، فأخذ بظاهر القرآن، وشذ في ذلك.
ولم يقل أحد من العلماء بقوله، إلا طائفة من الخوارج. كما شذ الحسن في قوله: لا يحلها إلا وطء فيه إنزال التفاتًا إلى معنى العسيلة.
ومنها: أنه قد يُستدلُّ به على أن إحلال الزوج الثاني يتوقف مع الوطء في شرطه على الانتشار؛ فإن قولها: وإنما معه مثل هدبة الثوب: يدل على الاسترخاء وعدم الانتشار أن يكون العضو قد بلغ في الصغر إلى حد لا تغيب فيه الحشفة، أو مقدارها الذي يحصل به، وقد اتفق العلماء على أن تغييب ذلك في ذلك كاف في ذلك، من غير إنزال المني، إلا ما حكيناه في شذوذ عن الحسن البصري في اشتراطه، ولو وطئها في نكاح فاسد، لم تحل للأول؛ لأنه ليس بزوج، ولا بد في حلها للأول من انقضاء عدتها من الثاني، ولا يحل للثاني نكاحها حتى تنقضي عدتها من الأول. والله أعلم.
ومنها: إظهار ما في النفس مما يخالف الشرع والعادة، ولا يستحيا من ذكره؛ لتعرف حكم الله تعالى وما يجب منه. والأصل في ذلك قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، ولو كان الله سبحانه وتعالى كاتمًا شيئًا على أحد، لكتم هذا، ولم يبين حكمه، بل جعله قرآنا يُتلى إلى يوم القيامة.
وقد تمسك العلماء بهذا وأمثاله؛ على أن الشرع ليس له باطن يخالف ظاهره، ولا ظاهر يخالف باطنه، بل باطنه وظاهره سواء في حكم الله تعالى،
ويجب تقريبه والوصول إليه بكل طريق ممكن، والحكمة في كونه كذلك؛ لأجل معرفة الدرجات، وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، وهذا كلُّه بالنسبة إلى حكم الشرع مجردًا.
وأما العمل به للثبوت عند الحكام، وترتيب الحكم عندهم بالثبوت بالأقارير والبينات، فإن علموا ما ثبت مخالفًا لحكم الله تعالى، حرم عليهم ثبوتُه وترتيبُ حكمهم عليه، وإن لم يعلموا ذلك، ولم يحصل في قلوبهم ريبة فيه، شاع لهم الثبوت والحكم بالطلب الصحيح من غير أولي الرتب.
واعلم أن الله تعالى لما أرسل الرسل، وأنزل الكتب عليهم، وأمر الأمم بطاعتهم، واتباع ما في الكتب، ضلَّت اليهود، وغيرَّت وكتمت وبدَّلت، وقالت: لم نكلَّف إلا ما ظهر لنا منها، ولم نكلف بما يظن منها، وكفروا بذلك، {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61].
ولما تكرر ذلك منهم، بعث الله تعالى عيسى صلى الله عليه وسلم بالإنجيل؛ مصدقًا للتوراة، وحكمًا ومواعظ وأحكامًا قلبية ملينة للقلوب، وأمرهم بالعمل بالتوراة، فضلَّت النصارى، واعتمدت على العمل بالقلوب دون الجوارح، وهو المراد بقول العلماء: علم الباطن، وأهملوا أحكام الظواهر، وكفروا بذلك، فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم، تبيانًا لكل شيء، وجعل سبحانه وتعالى إليه صلى الله عليه وسلم البيانَ ظاهرًا وباطنًا، وأمره سبحانه وتعالى وأمته بالاستقامة، فقال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، وقال صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال:"قُلْ آمنتُ باللهِ ثم استقم"(1)؛ أي: استقم على أمر الله ظاهرًا وباطنًا.
فقول الفقهاء: يشترط ثبوت العدالة في الظاهر والباطن، ويقول: نفذ الحكم في الظاهر دون الباطن، وعكسه، ومن أنكر وجوب أمر الله تعالى في الظاهر أو
(1) رواه مسلم (38)، كتاب: الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام، عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه.