الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ مَمْلُوكٍ، فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ؛ قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ استسعى غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيهِ"(1).
اعلم أن هذا الحديث قد روياه في "الصحيحين"، لكن في لفظ الاستسعاء خلاف بين الرواة، فمنهم من فصله من الحديث، وجعله من رأي قتادة.
قال الدارقطني: روى هذا الحديث شعبة، وهشام عن قتادة، وهما أثبت، فلم يذكر فيه الاستسعاء، ووافقهما همام، ففصل الاستسعاء من الحديث، فجعله من رأي قتادة، قال: وعلى هذا أخرجه البخاري، وهو الصواب (2)!
قال الدارقطني: وسمعت أبا بكر النيسابوري يقول: ما أحسن ما رواه همام وضبطه! ففصل قول قتادة عن الحديث (3).
وقال القاضي عياض رحمه الله: قال الأصيلي، وابن القصار، وغيرهما: من أسقط السعاية من الحديث، أولى ممن ذكرها، ولأنها ليست في الأحاديث الأخر من رواية ابن عمر (4).
وقال ابن عبد البر: الذين لم يذكروا السعاية أثبتُ ممن ذكرها (5).
(1) رواه البخاري (2370)، كتاب: الشركة، باب: الشركة في الرقيق، ومسلم (1503)، كتاب: العتق، باب: ذكر سعاية العبد.
(2)
انظر: "سنن الدارقطني"(4/ 125).
قلت: وقوله: "وعلى هذا أخرجه البخاري، وهو الصواب" ليس من كلام الدارقطني، وإنما هو من كلام القاضي عياض، كما نقله عنه النووي في "شرح مسلم"(10/ 135)، والشارح -كما أسلفنا- يعوّل في عزوه على "شرح مسلم" وغيره، دون الرجوع في غالب الأحيان إلى المصادر الأم.
(3)
انظر: "سنن الدارقطني"(4/ 127).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 136).
(5)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 277).
وقال غيره: وقد اختلف فيها عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، فتارة ذكرها، وتارة لم يذكرها.
فدل على أنها ليست عنده من متن الحديث، كما قال غيره، والله أعلم.
أما معنى الاستسعاء في هذا الحديث، فالذي عليه جمهور القائلين بجواز الاستسعاء: أن العبد يكلَّف الاكتسابَ والطلبَ حتى يحصل قيمة نصيب الشريك الآخر، فإذا دفعها إليه، عَتَقَ، وقال بعضهم: هو أن يخدم سيدَه الذي لم يعتق بقدر ما له من الرق، فتتفق الأحاديث على هذا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "غيرَ مشقوقٍ عليه": أي: لا يكلَّف المملوك ما يشقُّ عليه في السعاية.
وأما الشِّقْص: فهو النصيب، قليلًا كان أو كثيرًا، ويقال له: الشقيص أيضًا بزيادة ياء، ويقال له: الشِّرك -أيضًا- بكسر الشين، وتقدم بعض ذلك.
وأما لفظ المملوك: فيتناول الذكر والأنثى معًا، وتعسف بعضهم وقال: لا يطلق على الأنثى، بل يقال لها: مملوكة. وأما لفظ العبد: فلا يطلق إلا على الذكر، وادعى بعضهم أنه يتناول الذكر والأنثى، وعبد وعبدة، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فعليه خلاصُهُ": هذا اللفظ يشعر باستقبال خلاصه، وقد يقدر فيه محذوف؛ أي: فعليه عوض خلاصه ونحوه، وقد يشعر بعدم السراية بنفس العتق إلى نصيب الشريك، والمراد: فعليه خلاص كله يعتق تتمته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "في ماله": ردٌّ على من قال: إنه يعتق من بيت مال المسلمين، وهو ابن سيرين؛ فإن إضافة المال إلى السيد المعتِق ينافي بيت مال المسلمين.
وقد يستدل به لمن يقول: إن الشريك الذي لم يعتق أولًا، ليس له أن يعتق بعد الأول، إذا كان الأول موسرًا؛ لأنه لو أعتق، ونفذ، لم يحصل الوفاء بكون خلاصه من ماله.
لكنه رد عليه الحديث قبله، فإنه من لوازم عدم صحة عتق الثاني: أنه يسري بعتق الأول عليه بفراغه من لفظه؛ فيكون دليلًا على السراية بنفس العتق.
ويبقى الترجيح بين هذه الدلالة وبين غيرها، من قوله:"قُوِّمَ عليه، وأُعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد"؛ حيث إن ظاهره يرتب العتق على إعطاء القيمة، فأي الدليلين كان أظهرَ، عمل به.
ثم قوله: "فعليه خلاصُه من مالِه": يقتضي عدم استسعاء العبد عند يسار المعتق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنْ لم يكنْ له مالٌ": يقتضي ظاهرُه النفيَ العامَّ للمال، والمراد به: المال الذي يؤدي إلى خلاص المملوك.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: جواز عتق العبد المملوك المشترك من بعض الشركاء.
ومنها: أنه إذا كان له مال أنه يلزمه خلاص باقيه من ماله.
ومنها: أنه إذا لم يكن له مال، واستسعى العبد فيما يفك به رقبته: أنه لا يكون سعيًا شاقًّا على العبد، بل يعمل فيه بالاجتهاد، والظن الراجح؛ كما قلنا في القيمة.
ومنها: تعظيم حق العتق، وأنه مطلوب مؤكد للشرع.
ومنها: استسعاء العبد عند عسر المعتق نصيبه، وتقدم الاختلاف فيه في الحديث قبله، والمخالفون في الاستسعاء يعارضونهم بقوله صلى الله عليه وسلم:"وإلَّا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ".
قال شيخنا الإمام أبو الفتح رحمه الله: والنظر المنحصر في تقديم أحد الدلالتين على الأخرى، في قوله:"فقد عتق منه ما عتق" على رقِّ الباقي، ودلالة الاستسعاء على لزومه في هذه الحالة، قال: والظاهر ترجيح هذه الدلالة على الأولى، والله أعلم (1).
قلت: إنما حمل الشيخ رحمه الله ترجيحَ دلالة الاستسعاء على دلالة
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 261).