الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الأطعمة
الحديث الأول
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ -وَأَهوَى النُّعْمانُ بِإصْبَعَيهِ إلَى أُذُنيْهِ-: "إن الحَلَالَ بينٌ، وَإن الحَرَامَ بينٌ، وَبينَهُمَا أمُورٌ مُشتَبِهَات، لَا يَعلَمُهُن كثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتقَى الشُبُهَاتِ، استبَرَأَ لِدِينهِ وَعِرضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ في الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَن يَرْتَع فِيهِ، أَلَا وإنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إذَا صَلحَتْ، صلَحَ الجَسَدُ كُلهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ"(1).
تقدم الكلام على النعمان بن بشير.
قوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: -وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه-" إنما قال ذلك ردًّا على من لم يصحح سماع النعمان من النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة؛ حيث إنه كان صغيرًا، ولا شك أن عمره يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم كان ثماني سنين، ومن كان في هذا السن كان مميزًا صحيح السماع. وكذا من هو أصغر سنًّا منه، ولهذا صرح بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، وأكده بإشارته بإصبعيه إلى أذنيه، وهو مذهب أهل العراق وجماهير العلماء، وهو الصواب.
(1) رواه البخاري (52)، كتاب: الإيمان،
باب:
فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599)، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال، وترك الشبهات، وهذا لفظ مسلم.
وحكاية القول عن أهل المدينة بعدم صحة سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة أو باطلة، والله أعلم.
وهذا الحديث عظيم الموقع كثير الفوائد، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، وقد وصفه العلماء بأنه ثلث الإِسلام أو ربعه، ويمتاز عليها بأنه أصل كبير في الورع وترك المتشابهات.
وللشبهات مثارات؛ منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحامل أو التحريم وتعارض الإمارات والحجج؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا يعلمها كثير من الناس" إشارة إلى ما ذكرنا، مع أنه يحتمل أنه لا يعلم عينها، وإن علم حكمها أصلًا في التحليل والتحريم، وهذا -أيضًا- من مثار الشبهات.
وقد نبه صلى الله عليه وسلم على صلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأنها ينبغي أن تكون حلالًا، وأرشد إلى معرفة الحلال، وأنه ينبغي ترك الشبهات؛ فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذر من مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بين أهم الأمور، وهو مراعاة القلب؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة
…
" إلى آخره، فتبين أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحلالُ بينٌ"؛ معناه: "بيِّنٌ حلُّه في عينه ووصفه، واضحٌ لا يخفى على أحد؛ كالمأكولات من الفواكله والحبوب والزيت والعسل والأسمان والألبان من مأكول اللحم والبيض وغير ذلك، وكالكلام والنظر والمشي والتصرفات الحلال التي لا شك فيها، وكالأكساب بالعقود الصحيحة الواضحة شرعًا، وبالتبرعات المأذون فيها شرعًا، ونحو ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن الحرامَ بين"؛ يعني: في عينه ووصفه بين واضحٌ؛ كالخمر والميتة والخنزير والبول والدم المسفوح، وكذلك المأخوذ بعقد نهى الشرع عنه على عينه، وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية، وشبه ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس" معناه: ليست بواضحة الحل ولا الحرمة، لا يعلم كثير من الناس حكمها، وأما العلماء، فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب ونحو ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة، ولم يكن فيه نص ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد، فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه بأحدهما، صار حلالًا. وقد يكون دليله غيرَ خالٍ عن الاحتمال البين، فيكون الورع تركه، فيكون داخلًا في قوله صلى الله عليه وسلم:"فمنِ اتقى الشبهاتِ، فقد استبرأ لدينه وعرضه"، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء؛ فهو مشتبه، فهل يوجد بحل هذا أم بحرمته أم يتوقف فيه؛ فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض رحمه الله، وغيره.
قال شيخنا الإِمام أبو زكريا النووي رحمه الله: والظاهر، أنها مخرجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب:
الأصح: أنه لا حكم بحل ولا حرمة ولا إباحة ولا غيرها؛ لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع.
والثاني: أن حكمها التحريم.
والثالث: الإباحة.
والرابع: التوقف، والله أعلم (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمنِ اتقى الشبهاتِ فقدِ استبرأَ لدينه وعرضه"؛ ويعني: اتقى الشبهات على الوصف الذي ذكرنا من التوقف عن الأشياء حتى يعلم حلها وحرمتها، فيعمل بها، أو يمسك عنها، فقد صان نفسه عن الذم الشرعي المتعلق بدينه في أولاه وعقباه، وعرضه عن كلام الناس فيه من دنياه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن لكل ملكٍ حِمًى، ألا وإن حمى الله محارمُه" معناه: أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل منهم حمى يحميه عن الناس، ويمنعهم دخوله، فمن دخله منهم، أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه، لا يقارب ذلك
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 28).
الحمى؛ خوفًا من الوقوع في عقوبته، فكذلك لله تعالى حمى، وهو محارمه التي حرمها، التي هي المعاصي؛ كالقتل والزنا والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة، وأكل المال بالباطل، وأشباه هذا، فكل هذا حمى الله تعالى، من دخله باعتقاد حله، أو ارتكابه من غير اعتقاد حله، استحق العقوبة، ومن قارب، أوشك أن يقع فيه. ومن احتاط لنفسه بعدم المقاربة لشيء من الاعتقاد أو أسباب المعصية، لم يدخل في شيء من الشبهات، ويسمى هذا العدم: عدم الاستدراج.
ولا شك أن النفس مركز الشيطان وميدان الأحزان، فتستدرج الإنسان من المباحات إلى المكروهات، ومن المكروهات إلى المحرمات، استدراجا لطيفا على حسب قوة الإنسان وضعفه في إيمانه ويقينه وشهوته، فينبغي للعبد أن يراقب ذلك، ويقطع الأسباب الحاملة عليه، ونسأل الله تعالى التوفيق والتسديد والإعانة، ولا بد في ذلك جميعه من توقفٍ تقي يؤمن باللهِ واليوم الآخر، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام".
وقد ذكروا فيه احتمالين، وهما وجهان ذكرهما العلماء:
أحدهما: أنه من كثر تعاطيه الشبهات، فإنه يصادف الوقوع في الحرام، وإن لم يتعمده، وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير في المراقبة للخلاص منه.
والثاني: أنه من كثر تعاطيه الشبهات، اعتاد التساهل، وتمرن عليه، فيجسُرُ بفعل الشبهة على فعل شبهة أغلظ منها، ثم أخرى أغلظ، وهكذا حتى يقع في الحرام عمدًا، وهذا نحو قول السلف: المعاصي بريد الكفر؛ أي: تسوق إليه، عافانا الله أجمعين من الشر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يرتع فيه"؛ يقال: أوشك يوشك -بضم الياء وكسر الشين-؛ أي: يشرع ويقرب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كالراعي يرعى حول الحمى"؛ هذا من باب التمثيل والتشبيه.
والحمى: المحمي: أطلق المصدر على اسم المفعول، والمحارم تطلق على
المبهمات قصدًا، وعلى ترك المأمورات استلزامًا، وإطلاقها على الأول أشهر.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغةً، إذا صلَحت صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ"؛ المضغة: القطعة من اللحم، سميت بذلك؛ لأنها تمضع في الفم لصغرها، والمراد: تصغير جرم القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب، وقد عظم الشارع أمر القلب؛ لصدور الأفعال الاختيارية عنه، وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم، ورتب الأمر فيه على المضغة، والمراد: المتعلق بها، فلا شك أن صلاح الأعمال باعتبار العلم والاعتقاد بالمفاسد، فيتعين حماية مركزهما من الفساد وإصلاحه، وهو القلب.
وقد اختلف العلماء من المتكلمين وغيرهم في العقل، هل هو في القلب، أو في الرأس؟ مذهب الشافعي وجماهير المتكلمين أنه في القلب، ومذهب أبي حنيفة: أنه في الدماغ، وقد يقال: في الرأس، والأول محكي عن الفلاسفة، والثاني: عن الأطباء.
واستدل القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، وقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37].
وبهذا الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل صلاح الجسد وفساده تابعين للقلب، مع أن الدماغ من جملة الجسد، فيكون صلاحه وفساده تابعًا للقلب، فعلم أنه ليس محلًا للعقل.
واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ، فسد العقل، ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن الله -سبحانه- أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ، مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع من ذلك، لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكا، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: الحث على الحلال وتبينه.
ومنها: الحث على اجتناب الحرام وتبينه.
ومنها: الإمساك عن الشبهات.
ومنها: الاحتياط للدين والعرض، وعدم تعاطي الأمور الموجبة لسوء الظن بالإنسان؛ لما فيها من تأذية وجر الأذى إلى الناس بوقوعهم فيه بسبب عدم احتياطه لنفسه.
ومنها: الأخذ بالورع والعمل به، وهذا الحديث أصل فيه.
وقد روى الترمذي حديثًا حسنًا من رواية عائذ بن عمرو الصحابي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلُغ أحدٌ أن يكونَ من المتقين حَتَّى يدع ما لا بأسَ بهِ، حذرًا لِما به بَأسٌ"(1).
وهذا الحديث -أيضًا- أصل أصيل في الورع وترك الشبهات، قال شيخنا الإِمام أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: وكان في عصر شيوخنا بينهم اختلاف في هذه المسألة، وصنفوا فيها تصانيف، وكان بعضهم سلك طريقا من الورع، فخالفهم بعض أهل عصره، وقال: إن كان هذا الشيء مباحا؛ والمباح ما استوى طرفاه، فلا ورع فيه؛ فإن الورع ترجيح لجانب الترك، والترجيح لأحد الجانبين مع التساوي محال، وجمع بين المتناقضين، وبنى ذلك تصنيفًا.
قال: والجواب عندي من وجهين:
أحدهما: أن المباح قد يطلق على ما لا حرج في فعله، وإن لم يتساو طرفاه، وهذا أعم من المباح المتساوي الطرفين، فهذا الذي رد فيه القول. وقال: إما أن يكون مباحا أو لا؛ فإن كان مباحًا، فهو مستوي الطرفين، فنمنعه؛ فإن المباح قد
(1) رواه الترمذي (2451)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب:(19)، وابن ماجه (4215)، كتاب: الزهد، باب: الورع والتقوى، والحاكم في "المستدرك"(7899)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 335)، عن عطية السعدي رضي الله عنه.
صار مطلقًا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين، فلا بد أن اللفظين على غير التساوي؛ إذ الدال على العام لا يدل على الخاص بعينه.
الثاني: أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار أنه لا يتناقض حينئذ الحكمان، وعلى الجملة، فلا يخلو هذا الموضع من نظر؛ فإنه إن لم يكن فعل هذا المشتبه موجبًا لضرر ما في الآخرة، وإلا فيتعين ترجيح تركه، إلا أن يقال: إن تركه محصل لثواب، أو زيادة درجات، وهو على خلاف ما نفهم من أفعال الورعين؛ فإنهم يتركون ذلك تحرجا وتخوفا، وبه يشعر لفظ الحديث، والله أعلم (1).
ومنها: ضرب الأمثال للمعاني الشرعية العلمية.
ومنها: التنبيه على عظمة الله سبحانه وتعالى، واجتناب محارمه التي مصالحها ونفعها عائد علينا؛ لأنه الغني المطلق، ولهذا قال سبحانه وتعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
ومنها: التنبيه بما يشاهده العبد على ما غاب عنه لتقريب المعاني إلى ذهنه.
ومنها: التنبيه على مرتبة العلم والعلماء وشرفهما.
ومنها: إلحاق المشتبه بالممنوع منه، إلى أن يستبين أمره.
ومنها: أن ارتكابه سبب للوقوع في الممنوع منه.
ومنها: تبيين مرتبة القلب من الجسد، وأن بصلاحه يصلح الجسد، وبفساده يفسد؛ فهو كالملك إذا صلح صلحت الرعية، وإذا فسد فسدت الرعية.
ومنها: أن الأعمال القلبية أفضل من الأعمال البدنية، وأنها لا تصلح الأعمال البدنية إلا بالقلبية.
ومنها: أنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، فيما كان العمل مقيدًا بهما؛ فإنه قد يختص بأحدهما أحكام دون الآخر، وقد يلزم عن أحدهما أعمال بسبب الآخر، والله أعلم.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 182 - 183).