الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث العاشر
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أيضًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إذَا جَمَعَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ ، فَيُقَالُ: هَذه غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ"(1).
أما اللواء؛ فهو الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحبُ جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعًا.
ومعنى: "يُرفع لكلِّ غادر لواءٌ، فيقال: هذه غدرةُ فلانِ بنِ فلانٍ"؛ أي: تجعل علامة يُشهَرُ بها في الناس يوم القيامة في مجمع يظهر ذلك فيه للأولين والآخرين؛ مقابلةً للذنب بما يناسب ضدَّه في العقوبة؛ حيث إن الغادر أخفى جهة غدره ومكره، فعوقب بنقيضه، وهو شهرته على رؤوس الأشهاد.
وعبر برفع اللواء؛ حيث إن موضوعه لشهرة مكان الرئيس علامة. وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة (2) لغدرة الغادر؛ لتشهره بذلك، فعومل الغادر في الآخرة بمثل معاملة العرب الغادرَ في الدنيا، والله أعلم.
وأما الغادر؛ فهو الذي يواعد على أمر ولا يفي به. يقال: غدَرَ يغدِر: بكسر الدال في المضارع.
وهذا الحديث ونحوه، وارد في نهي الإمام عن الغدر في عهوده لرعيته، أو للكفار وغيرهم، أو غدره للأمانة التي قلدها لرعيته، والتزم القيام بها والمحافظة عليها؛ حيث أنزل الله تعالى في حق الإمام وغيره من ولاة الأمور:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58].
فمتى خانهم، أو ترك الشفقة عليهم، أو الرفق بهم، فقد غدر بعهده، ولم
(1) رواه البخاري (3016)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: إثم الغادر للبر والفاجر، ومسلم (1735)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، وهذا لفظ مسلم.
(2)
في "ح": "الحلفة".
يؤد الأمانة المأمور بها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في "صحيح مسلم" في رواية من هذا الحديث: "ولا غادِرَ أعظمُ غدْرًا من أميرِ عامَّةٍ"(1).
ويحتمل أنه ورد في نهي الرعية عن الغدر بالإمام، فلا يشقوا عليه العصا، ولا يتعرضوا لما يخاف حصول فتنة بسببه، وإذا صدر من الأئمة والولاة ما يشق عليهم، صبروا عليهم ما أقاموا الصلاة فيهم، كما ثبت في الصحيح. ولهذا قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]، والله أعلم.
وفي الحديث دليل: على غلظ تحريم الغدر من صاحب الولاية العامة وغيره؛ لأنه غدره يتعدَّى ضرره إلى خلق كثير، ولأنه غير مضطر إلى الغدر؛ لقدرته على الوفاء، كما ثبت في الحديث الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثةٌ لا يكلِّمُهم اللهُ يومَ القيامة ولا يُزَكِّيهم ولهم عذابٌ أليم: ملكٌ كذاب، وشيخٌ زانٍ، وعائلٌ مستكبِرٌ"(2).
ولا شك أن الغدر في الحروب والاغتيال فيها وغيرها، ممنوع شرعًا، خصوصًا إن تقدم ذلك عهد أو أمان، وقلنا: إن الدعوة إلى الإسلام واجبة قبل القتال، وذلك كله متعلق بالإمام.
ولفظ الحديث عام في الإمام وغيره، لكن غدر الإمام أعظم، ولهذا عوقب الغادر بالفضيحة العظمى.
وفيه دليل: على شهر الناس، والتعريف بهم في القيامة، لكنه بالنسبة إلى أمهاتهم.
(1) رواه مسلم (1738)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (107)، كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، عن أبي هريرة رضي الله عنه.