الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ عَائشِةَ رضي الله عنها: أَن قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَخْزُوميَّة الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَن يُكَلِّمُ فِيها رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِىَ عَلَيهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ:"أتشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ "، ثُمَّ قامَ فَاختَطَبَ فَقَالَ:"إنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ، تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ. وَايْمُ اللهِ! لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَت لَقَطَعْتُ يَدَهَا"(1).
وَفِي لَفظٍ: كَانَتِ امْرَأَةٌ [مَخْزُوميَّةٌ] تَسْتَعيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا (2).
أما المرأة المخزومية السارقة؛ فاسمها فاطمةُ بنتُ أبي الأسد بنِ عبد الأسد، بنت أخي أبي سلمةَ زوجِ أُمِّ سلمةَ المخزومية.
وكانت سرقتها هذه في غزوة الفتح، على ما ذكره ابن وهب في "موطئه" عن مالك، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها.
وقال أبو القاسم بن بشكوال: وقيل: هي أم عمرو بنت أبي الأسد بن عبد الأسد. وذكر ذلك عن عبد الرزاق عن ابن جريج، والله أعلم (3).
وأما المخزومية، فنسبة إلى بني مخزوم بن يقظة بن مرة -يقظة وتيم وكلاب إخوة- بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
(1) رواه البخاري (3288)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (1688)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود.
(2)
رواه مسلم (1688)، (3/ 1316)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود.
(3)
انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 415 - 417).
وأما قريش فهم أولاد النضر بن كنانة، على المشهور، وقيل: أولاد فهو، والله أعلم (1).
وأما ما أَهَمَّهم من شأنها؛ فلِما خافوا من لحُوق العار الجاهلي في قطع يدها، وافتضاحهم بين القبائل به، وظنوا أن الشفاعة والسعي في إسقاط الحدود يفيدان فيه، فلما أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على أنه لو سرقت ابنته فاطمة لقطع يدها، علموا أن ذلك حتم لا مندوحة عنه، والله أعلم.
وأما قوله في الرواية الثانية: أنها "كانت تستعيرُ المتاعَ وتجحدُه" وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يدها؛ فلا شك أن سياقها عقب هذا الحديث الذي فيه أنها سرقت، يقتضي أن المعبر عنه بالسرقة وجحد المتاع بعد الاستعارة، امرأة واحدة، لكن لا يقتضي أن العارية وجحدها تسمى سرقة موجبة لقطع اليد؛ فإن الإعارة مخرجة لوضع اليد على العين عن السرقة والغصب. ومن جحد شيئًا، لا يجب به القطع.
وقد روى مسعود بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا الخبر فيما قاله أبو داود، قال: سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التعليق قد أخرجه ابن ماجه في "سننه" بإسناد فيه محمد بن إسحاق، وهو متكلم فيه (2).
وروي من حديث جابر: أن امرأة سرقت، فعاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
(1) انظر: "الأنساب" للسمعاني (5/ 225).
(2)
ذكره أبو داود في "سننه"(4/ 132) تعليقًا، ورواه موصولًا: ابن ماجه (2548)، كتاب: الحدود، باب: الشفاعة في الحدود، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 409)، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 333)، والحاكم في "المستدرك"(8147)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 281).
(3)
ذكره أبو داود في "سننه"(4/ 132) تعليقًا، ورواه الحاكم في "المستدرك"(8145) موصولًا.
وروى مسلم والنسائي عن جابر -أيضًا-، قال: فعاذت بأم سلمة زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم (1).
فهذا كله يدل على أن هذه المرأة كان لها عادات في التحيُّل على أخذ أموال الناس، وأنها كانت تسرقها مرة، وتستعيرها مرة وتجحدها، وأنها كانت تعوذ ببنت النبي صلى الله عليه وسلم تارة، وتارة بزوجته، وأن الرواة كان أحدهم يذكر حالة من حالاتها في أخذ الأموال والتوصل إلى دفع العقوبة فيها.
وقد تأول العلماء رواية استعارة المتاع وجحده على أن ذلك إنما ذكر لتعريف المرأة، ووصفها بما ذكر، لا بكونها سببًا للقطع؛ لأن سببه السرقة لا الاستعارة والجحد؛ حيث إن الأحاديث في معظم طرقها مصرحة بالسرقة، وأنها سبب القطع.
قالوا: فتعين حمل هذه الرواية عليها؛ جمعًا بين الروايات؛ حيث إن القضية في المرأة وقطع يدها واحدة. ومن أئمة الحديث من جعلها شاذة مخالفة لجماهير الرواة، والشاذ لا يعمل به.
قال بعض العلماء: وإنما لم تذكر السرقة فيها؛ حيث إن المقصود عند الراوي: ذكر منع الشفاعة في الحدود، لا الإخبار عن السرقة.
ولا شك أن الحديث واحد اختلف فيه، هل كانت المرأة المذكورة فيه سارقة أو جاحدة؟
وقد أوجب أحمد وإسحاق القطع في صورة جحود العارية؛ عملًا بهذه الرواية، وهذا يقتضي أنها عندهما غير شاذة ولا مخالفة، لكن قول جمهور العلماء وفقهاء الأمصار: في أنه لا قطع في جحود العارية؛ لما بينا.
فإن أخذناها بما ذكرنا من العمل الصناعي لأهل الحديث من الشذوذ، ضعفت الدلالة منها على مسألة الجحود لمن أوجب القطع فيه قليلًا؛ حيث إنه
(1) رواه مسلم (1689)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، والنسائي (4891)، كتاب: قطع السارق، باب: ما يكون حرزًا وما لا يكون.
اختلاف في واقعة واحدة، فلا يثبت الحكم في الجحود حتى يتبين ترجيح رواية من روى أنها كانت سارقة، وقد تبين، والله أعلم.
وقد يقال: كيف يكون الحديث واحدًا، ويعبر عنه تارة بالسرقة، وتارة بالجحود؟! وكيف يجوز للراوي التعبير بأحدهما عن الآخر؟
قلنا: قد استعمل مثل هذا في قطع النبي صلى الله عليه وسلم في ربع دينار فعلًا، واعتمادًا على قطعه فيه قولًا، لكن يخرج عنه صورة التقويم به، ويكون اختلاف الحديث في اللفظ، لا في المعنى، ويتأول أحد اللفظين على الآخر، فكذلك في حديث سرقة المتاع، واستعارته، وجحوده -كما ذكرنا- يتنزل على ذلك، والله أعلم.
وقولهم: "ومَنْ يجترىَ عليه إلا أسامةُ حِبُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ "؛ الاجتراء: التجاسر بطريق الإدلال، والحِبُّ -بكسر الحاء-؛ هو المحبوب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وايم الله"؛ اعلم! أن ايم الله معناها: القسم، ولا تستعمل إلا مضافة إلى الله عز وجل.
وفيها لغات: ايم الله -بفتح الهمزة، وكسرها-، وايمن الله -بفتح الهمزة، وكسرها أيضًا- وزيادة نون في آخرها، وإم الله -بكسر الهمزة وحذف الياء والنون-، وم الله -بحذف الهمزة والياء والنون-، وأومن الله -بضم الهمزة وسكون الواو وضم الميم والنون-، وأيمن الله -بفتح الهمزة وسكون الياء وضم الميم والنون- (1).
فهذه ثمان لغات فيها كتبناها عن شيخنا العلامة: أبي عبد اللهِ محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني -رحمه الله تعالى-، وأجاز لنا روايته، وقد نظمها في بيتين من أبيات له في "لغات الألفاظ":
همز أيمٍ وأيمنٍ فافتحْ واكسر
…
وإم قل أو قل م أو من بالتثليثِ قَدْ شُكِلا
وأيمن اختم به والله كلا أضفْ
…
إليه في قَسَمٍ تبلغْ بهِ الأَملا
(1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 406)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 55 - 56)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 85)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 462).
وفي الحديث أحكام:
منها: قطع السارق، رجلًا كان أو امرأة، وتمسك أحمد وإسحاق بالرواية في الكتاب بقطع مجحد المتاع، وقد بسطنا القول فيها أتم بسط.
ومنها: منقبة ظاهرة لأسامة رضي الله عنه.
ومنها: جواز الحلف من غير استحلاف، وهو مستحب إذا كان فيه تفخيم لأمر مطلوب، وقد اختلف العلماء في جواز الحلف به، وهذا الحديث دليل لجوازه.
ومنها: المنع من الشفاعة في الحدود، وهو مجمع عليه بعد بلوغه إلى السلطان، فأما قبل بلوغه إليه، فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحبَ شر وأذى للناس، فإن كان، لم يشفع فيه، أما المعاصي التي لا حد فيها، فواجبها التعزير، فتجوز الشفاعة والشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا؛ لأنها أهون. ثم الشفاعة فيها مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحبَ أذى ونحوه.
ومنها: أنه يحرم التشفيع في صاحب الحد.
ومنها: تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله عز وجل وحدوده، وأنها سبب للهلاك، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على ذلك بهلاك من قبلنا من الأمم بذلك بالحصر بـ "إنما"، والظاهر أنها ليست هنا للحصر المطلق، مع احتماله؛ فإن بني إسرائيل كانت فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك، فيحمل ذلك على حصر مخصوص، وهو الإهلاك بسبب المحاباة في حدود الله عز وجل، فينحصر ذلك في هذا الحد المخصوص بـ "لو".
ومنها: جواز تعليق القول بـ "لو" بتقدير أمر آخر لا يمتنع، خصوصًا إذا كان فيه تنبيه على أمر شرعي، والتنفير عن مخالفته، وقد شدد قوم في المنع من قول:"لو"، وأنها تفتح عمل الشيطان، وليس المنع على إطلاقه، بل: هو منزل على فعل أمر قد فات، أو فعل محذور ونحوه، والله أعلم.
ومنها: مساواة الشريف والمشروف في أحكام الله عز وجل وحدوده.
ومنها: أن من راعى الشريف فيها مذمومٌ يُخشى عليه الهلاك.
ومنها: عدم مراعاة الأهل والأقارب والأصحاب في مخالفة الدين. وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالكون والحث على ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] وقال عز وجل: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
* * *