الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الأيمان والنذور
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ سَمُرَةَ! لَا تَسْأَلِ الإِمَارَة؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْت إلَيْها، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فكَفِّر عَنْ يَمِينِكَ، وَائتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"(1).
أما عبد الرحمن بن سمرة؛ فكنيته: أبو سعيد بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، قرشيٌّ عبشميٌّ، أسلم يوم الفتح، وصحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، ثم غزا خراسان في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو الذي افتتح سجستان، وكابل، وكان اسمه: عبدَ كلاب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الرحمن.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على هذا الحديث، وانفرد مسلم بحديثين.
روى عنه: عبدُ الله بن عباس، والحسنُ، ومحمدُ بنُ سيرين، وسعيدُ بن
(1) رواه البخاري (6727)، كتاب: الأحكام،
باب:
من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها، ومسلم (1652)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.
المسيب، وجماعة من التابعين، ومات بالبصرة سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين.
وقال الحاكم أبو عبد الله حكاية عن بعضهم: إنه توفي، ودفن بمرو، وإنه أول من توفي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمرو. وروى له أصحاب السنن والمساند (1).
أما "الإمارة"؛ فهي تعمُّ كلَّ ولاية عامة أو خاصة.
والحكمة في ألَّا يُولاها من سألها، أنه يوكَل إليها، ولا تكونُ له من الله إعانة، وإذا كان كذلك، لا يكون كفؤًا، وغير الكفؤ لا يُولى، وإنما تحصل الإعانة لمن أعطيها عن غير مسألة؛ لأنه لا يسأل عن الولاية إلا من أجمعت القلوب على أهليته، واعترفت بالعجز عن القيام برتبته، فصار ذلك باعثًا لهم على تسديده وإعانته، ويلزم من حاله وعدم تعرضه إليها اعترافُه بالعجز والتقصير، وذلك سببٌ حامل على الاجتهاد والتشمير، بخلاف من سألها؛ فإنه لا يفعل ذلك إلا وقد حدثته نفسه بالأهلية والرجحان، وذلك سبب لعدم الإعانة والنقصان؛ فإن النفوس مجبولة بطبعها على عدم إعانة من هذا وصفُه، وإيكاله إلى نفسه وولايته؛ لنقصه عندهم، فاعتماده على حديث نفسه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا نُوَلِّي عَمَلَنا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ"(2)؛ حيث إن التهمة متطرقة إلى الطالب الحريص، والله أعلم.
(1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 242)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 238)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 835)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (34/ 414)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 450)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 276)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 157)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 571)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 310)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 173).
(2)
رواه البخاري (6730)، كتاب: الأحكام، باب: ما يكره من الحرص على الإمارة، ومسلم (1733)، كتاب: الإمارة، باب: النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، بلفظ:"إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه".
وقوله: "وُكِلْتَ إلَيْها"؛ هو بالواو؛ ومعناه: أُسْلِمْتَ إليها، ولم يكن معك إعانة، بخلاف ما إذا حصلت بغير مسألة.
ووقعت الرواية في "صحيح مسلم" للفظة: أُوكلت -بالهمزة والواو-، [وجهان، قال القاضي عياض: هو في أكثرها بالهمزة، والصواب بالواو](1)، والله أعلم (2).
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: أن من تعاطى أمرًا، وسولت له نفسه أنه أهل له، قائم به: أنه يغلب فيه في أغلب الأحوال؛ لأن من سال الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلًا لها (3)، فيوكل إليها؛ حيث إنه تعاطاها، والمتعاطي أبدًا مخذول، بخلاف من لم يحدث نفسه بشيء من ذلك؛ فإنه لم يسأله لرؤيته نفسه بالعجز والتقصير عنه؛ حيث إنه تواضع، واعترف بوصفه، وهو النقصان أبدًا، ومن تواضع لله، رفعه الله.
ومنها: كراهة طلب الولاية مطلقًا، وقد ثبتت أحاديث في المنع، منها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر:"لا تأمرنَّ على اثنين"(4)، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "الولايةُ حَسْرَةٌ ونَدامة"(5)، ومنها: حديث الكتاب: "لا تسألِ الإمارةَ".
وقد تصرف الفقهاء في هذه المسألة بالقواعد الكلية، والذي تقتضيه الأدلة من الأحاديث الصحيحة وفعل الصحابة رضي الله عنهم: أنه من تعين عليه أمر من الأمور، وعلم من نفسه القيام به على ما يقدر عليه من الاستطاعة فيه، أو
(1) ما بين معكوفين ساقط من "ح".
(2)
وانظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 116).
(3)
في "ح": "إليها".
(4)
رواه مسلم (1826)، كتاب: الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة.
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 476)، والنسائي في "السنن الكبرى"(3/ 463)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(32542)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(7 /)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 129)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
كان يرتزق به، أو علم تضييع القائم بها حقوقها، أو حصولها في غير مستوجبها، ونيته إقامة الحق فيها، جاز له الدخول فيها، ووجب عليه قبولها إذا عُرضت عليه، وطلبها إن لم تُعرض؛ لأنه فرض كفاية لا يتادى إلا به، فتعين عليه القيام به. وكذا إن لم يتعين عليه، وكان أفضل من غيره.
ومنعنا ولاية المفضول مع وجود الأفضل، وإن كان غيره أفضل منه، ولم يمنع تولية المفضول مع وجود الفاضل، فهاهنا يكره له الدخول في الولاية، وأن يسألها.
وجوز بعضهم الطلب، وكره للإمام أن يوليه، وقال: إن ولاه، انعقدت ولايته، وقد خطئ في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن وَلَّى رَجُلًا مِن عِصابَةٍ، وفي تلكَ العصابةِ مَن هو لله أَرْضى منهُ، فقدْ خانَ اللهَ، وخانَ رسولَه، وخانَ المؤمنين"، ورواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين"(1).
وكره بعض العلماء تولية القضاء مطلقا؛ لأحاديث وردت فيه؛ منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "القُضاةُ ثلاثة؛ واحدٌ في الجنةِ، واثنانِ في النار"(2) ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وليَ القضاءَ، فقدْ ذُبِحَ بغيرِ سِكِّين"(3). مع أن بعض العلماء تأوله على المدح، وقال: لاجتهاده في طلب الحق، وبعضُهم على الذم؛ لعجزه غالبًا عن القيام به، وعدمِ المعين له على الحق.
(1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(2/ 352)، والعقيلي في "الضعفاء"(1/ 247)، والحاكم في "المستدرك"(7023)، وابن أبي عاصم في "السنة"(1462)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه أبو داود (3537)، كتاب: الأقضية، باب: في القاضي يخطئ، والنسائي في "السنن الكبرى"(5922)، والترمذي (1322)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، وابن ماجه (2315)، كتاب: الأحكام، باب: الحكم يجتهد فيصيب الحق، والحاكم في "المستدرك"(7512)، عن بريدة رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو داود (3571)، كتاب: الأقضية، باب: في طلب القضاء، والنسائي في "السنن الكبرى"(5923)، والترمذي (1325)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (2308)، كتاب: الأحكام، باب: ذكر القضاة، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 230)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولا شك أن معظم السلف في الصدر الأول لم يمتنعوا منه، وإنما كان ذلك لعلمهم يقينًا أو ظنًّا بالقيام به، ووجودِ المعين للحق في الحق.
ومعظم السلف من الصدر الثاني والثالث امتنعوا منه، وتحيلوا على الامتناع منه، حتَّى بأسباب توهم الجنون أو قلة المروءة؛ لما علموا في توليته من الخطر العظيم، وعدم براءة الذمة فيه، فارتكبوا أمرًا مباحًا، وخلاف الأولى؛ للخلاص من المحرم أو المكروه.
وقد اعتمد الفقهاء مثل ذلك في أحكام كثيرة في أبواب من العلم يطول ذكرها، والله أعلم.
والسلامة لا يعدلها شيء في الدنيا والآخرة، وثنيات الطرق لا تسلك، فإنَّها مفضية إلى الهلاك حسًّا، والله أعلم.
ومنها: لطف الله عز وجل بالعبد فيما قضاه وقدره وأوجبه عليه بالإعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله: لطفا وتفضلًا زائدًا على مجرد التكليف والهداية، وتحديد ذلك له.
فإنَّه لما كان خطر الولايات عظيمًا بسبب أمور خارجة عنه، كان طلبها تكلفًا ودخولًا في غرر عظيم، فهو جدير بعدم العون.
ولما كانت إذا أتت عن غير مسألة، ولم يكن فيها تكلف، كانت جديرة بالعون على أعبائها وأثقالها، دل ذلك جميعه على لطف الله تعالى بالعبد وفضله عليه في كل أمره، والله أعلم.
فهذا ما يتعلق به الحديث من ذلك، وهذا الكلام داخل في علم الأصول، ويكفي ما أشرنا إليه فيه.
واعلم أن من نظر إلى ما تعلق به من أوامر الشرع ونواهيه في الولاية وغيرها، وعلم أنَّه مسؤول عن الفتيل، والكثير والقليل، وأنه يؤتى يوم القيامة بمثقال حبَّة من خردل، علم أن ترك الولاية وقطع العلائق أولى به، واقتصر على ما لا بد منه ضرورة.
ودخول السادات من الصدر الأول في الولايات إنما كان دينًا محضًا، لا يشوبه شيء من الحظوظ.
ولهذا كان الولاة منهم أفضلهم وأقواهم دينًا لذلك، ومع هذا كان خوفهم شديدًا، حتَّى نقل عن عمر رضي الله عنه: أنَّه قال: ليتَ أمَّ عمرَ لم تلدْه (1).
وأقوال السلف في ذلك كثيرة؛ ومنها: أن من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، من فعل أو ترك؛ بأن كان التمادي على اليمين مرجوحًا في نظر الشرع، والحنث خير منه: أنَّه يستحب له الحنث، وتجب الكفارة، وقد يكون الحنث واجبًا، وهذا متفق عليه.
وأجمعوا على أنَّه لا تجب عليه كفارة قبل الحنث، وعلى أنَّه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنَّه لا يجوز تقديمها قبل اليمين.
ولا شك أن قوله لجمنم في هذا الحديث: "فكَفِّر عن يمينِكَ وائْتِ الذي هو خيرٌ" ما يقتضي تقديم التكفير على الحنث؛ من حيث الاهتمامُ بذكره.
وقد اختلف العلماء في جواز ذلك، فقال مالك والشافعي: يجوز، ونقل عن أربعة عشر صحابيًّا، وجماعات من التابعين، وبه قال الأَوْزَاعِيّ، والثوري، وجماهير العلماء، لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث.
واستثنى الشَّافعيّ التكفير بالصوم، فقال: لا يجوز قبل الحنث؛ لأنه عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها على وقتها؛ كالصلاة وصوم رمضان، وأما التكفير بالمال، فيجوز تقديمه، كما يجوز تعجيل الزكاة.
واستثنى بعض أصحابه حنث المعصية، فقال: لا يجوز تقديمه على كفارته؛ لأن فيه إعانة على المعصية، والجمهور على إجزائها لغير المعصية.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 83)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(9/ 425).
وقال أبو حنيفة وأصحابه، وأشهب المالكي: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث بكل حال.
وتعلق من قال بالبداءة بالتكفير قبل الحنث بهذا الحديث؛ حيث قدمه عليه، وهو ضعيف من حيث إن الواولا تقتضي الترتيب، والمعطوف والمعطوف عليه بها كالجملة الواحدة، وليس بالجيد طريقة من يقول في مثل هذا: إن الفاء تقتضي الترتيب والتعقيب، فيقتضي ذلك أن يكون التكفير مستعقبًا؛ لرواية الخبر في الحنث، وإذا استعقبه التكفير، تأخر الحنث ضرورة.
وإنما قيل: ليس بجيد؛ لما بُين في حكم الواو، فلا فرق بين قولنا: فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير، وبين قولنا: فافعلْ هذين، ولو قال كذلك، ولم يقتض ترتيبًا ولا تقديما، فكذلك إذا أتى بالواو.
وقد ذكرت هذه الطريقة عن بعض الفقهاء في اشتراط الترتيب في الوضوء، وقال: إن هذه الآية تقتضي تقديم غسل الوجه بسبب الفاء، وإذا وجب غسل الوجه، وجب الترتيب في بقية الأعضاء اتفاقًا، وهو ضعيف لما بُيِّن.
ومنها: أنَّه إذا لم هي الحنث خيرًا، اقتضى تأخير مصلحة الوفاء بمقتضى اليمين؛ فإن الحديث علق الحنث على رؤية غيرها خيرًا منها، وذلك مطلوب.
والآية الكريمة في قوله عز وجل: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] تأبى التأخير عن مصلحة الوفاء، وقد حملها بعضهم على ما دل عليه الحديث، فقال:{عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} ؛ أي: مانعًا، و {أَنْ تَبَرُّوا} بتقدير: من {أَنْ تَبَرُّوا} .
ومنها: بيان كرم الله تعالى على عبادة في عدم الوقوف عند الأيمان، وبأنه يحنث فيها؛ لئلا يؤدي ذلك إلى المنع من الخير وترك البر، والله أعلم.
* * *