الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: الحثُّ على متابعة السنَّة، والتحذير من مخالفتها، والله أعلم.
وقد يستدل به على قبول خبر الواحد؛ لأنه ما عدا المتواتر. ولم يثبت في الحديث أن النفر السائلين، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم المسؤولات بلغوا حدَّ التواتر، فلو لم يكن مقبولًا عند الصحابة، لما حسن سؤالهم لهنَّ، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أخبارهن عنهم، مع أن العلماء اختلفوا في حدِّ التواتر، والمختار عند الأصوليين أن حدَّه: خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم، وأن العدد في المخبرين غير محصور للتواتر، لكن قال القاضي أبو بكر: اعلم أن قول الأربعة لا يفيد العلم أصلًا، وأتوقف في الخمسة (1)، واختلف غيره على ستة أقوال: اثنا عشر، وعشرون، وأربعون، وسبعون، وثلاث مئة وبضعة عشر، وعدد بيعة الرضوان، وقيل: يشترط فيهم ألَّا يحصيهم عدد، ولا يحويهم بلد، وقيل: لا يكونوا من نسب ولا من بلد واحد، وشرط بعض من لا يجوز اعتماده اشتمالهم على المعصوم، وهذا في التواتر في الأخبار.
وأما التواتر في المعاني؛ كالكرم والشجاعة والبخل والجبن والفسق والعدالة، فإذا وقع الاتفاق عليها، مع وجود الاختلاف في كميتها وكيفيتها، لا يقدح فيه؛ فإن راوي الجزئي مطابقة راو للكلي المشترك فيه تضمنًا، ولأن امتناع الكذب عليهم يوجب صدق واحد منهم جزمًا، وهو المطلوب.
* * *
الحديث الثالث
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ، لاخْتَصَيْنَا (2).
(1) انظر: "نظم المتناثر في الحديث المتواتر" للكتاني (ص: 15)؛ حيث نسبه إلى القاضي أبي بكر الباقلاني.
(2)
رواه البخاري (4786)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء، ومسلم (1402)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه.
أما سعد بن أبي وقاص؛ فتقدَّم ذكره قريبًا في باب: الوصايا، مستوفى.
وأَمَّا عُثمانُ بنُ مَظْعُون؛ فهو قرشيٌّ، جمحيٌّ، كنيته: أبو السائب، وكان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، وعُبَّادهم ومجتهديهم، أسلم رضي الله عنه بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، لا خلاف في ذلك.
قال ابن عبد البر رحمه الله: قد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعثمان بنُ مظعون، وأبو ذر، هَمُّوا أن يختصوا ويتبتلوا، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ونزلت فيهم:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93].
وكان أحدَ مَنْ حرَّم الخمر في الجاهلية، وقال: لا أشرب شرابًا يُذهب عقلي، ويُضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي، فلمَّا حُرِّمت الخمر، أُتي وهو بالعوالي، فقيل: يا عثمان! قد حُرِّمت الخمر، فقال: تبًّا لها، قد كان بصري فيها ثاقبًا (1).
ولا شك أن تحريم الخمر عند الأكثرين بعد أُحُد، وهذا إنما يتجه على قول من قال: إن عثمان بن مظعون توفي بعد ثلاثين شهرًا بعد شهوده بدرًا، فيكون تحريم الخمر، والقول له بتحريمها بعدَ أحد؛ لأن أُحُدًا كانت في السنة الثالثة من الهجرة، ووفاته على هذا القول بعد ثلاثة أشهر من أول السنة الخامسة من الهجرة، والله أعلم.
وكان عثمان بن مظعون أوَّلَ من مات من المهاجرين بالمدينة، بعد رجوعه من بدر، وأول من تبعه إبراهيمُ بن النبي صلى الله عليه وسلم، وقبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ بعدما مات، فلما غُسِّل وكُفِّن، قَبَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه، فلمَّا دُفِن قال:"نِعْمَ السلفُ هو لنا عثمانُ بنُ مظعون"(2)، ولمَّا تُوفي إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3943).
(2)
ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"(3/ 1053).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحقْ بالسلفِ الصالحِ عثمانَ بنِ مظعونِ"(1)، ولمَّا تُوفيت زينبُ بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الحقي بسلفنا الصالح الخير، عثمانَ بنِ مظعون"، وأعلم قبره بحجر، وكان يزوره، ووضع الحجر عند رأسه، وقال: هذا قبر فَرَطِنا (2)، وكان أول من دفن بالبقيع في قول مصعب الزبيري.
ولما مات أكبَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وجرت دموعه، وقال:"اذهبْ أبا السائب، فقد خرجتَ منها -يعني: الدنيا- ولم تلتبسْ منها بشيء"(3)، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الخصاء لمشقة العزوبة في المغازي، فقال:"لَا، وَلَكن عَلَيْكَ يا بن مظعون بالصِّيَامِ، فإنَّه مجفّر"(4) وروي [مَجْفَرة](5).
ولما مات، قالت امرأته: هنيئًا لك الجنة عثمان بن مظعون، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة غضب، وقال:"ما يدريك"؟!، قالت: يا رسول الله! فارسك وصاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي رسولُ اللهِ، ومَا أَدْرِي ما يُفْعَل بي"، فأشفق الناس على عثمان، فلما ماتت زينب بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحقي بسلفِ الخير عثمانَ بنِ مظعونٍ"، فبكى النساء (6).
واختُلف في تاريخ وفاته، مع اتفاقهم على شهوده بدرًا، فقيل: سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: بعد اثنين وعشرين شهرًا من مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، وقيل: على رأس ثلاثين شهرًا من الهجرة بالمدينة، ورَثَتْه امرأته، وقالت:
(1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 378)، والطبراني في "المعجم الكبير"(837)، عن الأسود بن سريع قال: لما مات عثمان بن مظعون أشفق المسلمون عليه، فلما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون".
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(4867)، عن أبي رافع رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 105)، وابن عبد البر في "الاستيعاب"(3/ 1055).
(4)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 396).
(5)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(8320).
(6)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 237)، والطيالسي في "مسنده"(2694)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 398)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8317)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 105).
يَا عَيْنُ جُودِي بِدَمْعٍ غَيْرِ مَمْنُونِ
…
عَلَى رَزِيَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونِ
على امْرئٍ باتَ في رِضوانِ خَالِقِهِ
…
طُوبى لَهُ مِنْ مقيد الشخصِ مَدْفُونِ
طابَ البقيعُ لَهُ سُكْنَى وغَرْقَدُهُ
…
وأَشْرَقَتْ أَرْضُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيينِ
وأَوْرَثَ القلبَ حُزْنًا لَا انقطَاعَ لَهُ
…
حتَّى المَمَاتِ فَمَا ترقى لَهُ شُوني (1)
وأمَّا التَّبَتُّل: فهو ترك النكاح انقطاعًا إلى عبادة الله تعالى.
وأصل التبتل: القطع، ومنه قيل لمريم: البتول، ولفاطمة عليها السلام: البتول؛ لانقطاعهما عن نساء زمانهما؛ دينًا وفضلًا ورغبة في الآخرة، ومنه: صدقة بتلة؛ أي: منقطعة عن تصرف مالكها.
وقال الطبري: التبتل: هو ترك لذات الدنيا وشهواتها، والانقطاعُ إلى الله تعالى، بالتفرغ لعبادته، ومعنى رد عليه التبتل: نهاه (2).
ولا شك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ردَّه عليه؛ لأمور زائدة على مجرد التخلي للعبادة مما هو داخل في باب التنطع والتشبيه بالرهبانية؛ لا أن ظاهر الحديث، يقتضي تعليق الحكم بمسمى التبتل؛ فإن التبتل القاطع عن الحقوق الواجبة؛ من حقِّ زوجة وغيرها، أو المضر بالشخص، فإنه ممنوع.
وأما التَّبتل الحامل على الأغراض من الشهوات واللذات من غير إضرار بنفسه، ولا تفويت حق لزوجة، ولا غيرها، ففضيلة لا منع منه، بل هو مأمور به، وهو معنى قوله تعالى:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]؛ أي:
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 106). وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 393)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 210)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 260)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 209)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 102)، و" الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1053)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 449)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 589)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 300)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 153)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 461)، و "تعجيل المنفعة" له أيضًا (ص: 283).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 176).
انقطع إليه انقطاعًا حسنًا على وفق أمرنا ونهينا.
وبهذا يحصل الجمع بين الآية والحديث، فيكون المقصود: الإشارة إلى كثرة العبادات غير الشاقة، وملازمتها؛ لدلالة السياق في الآية؛ من الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن والذكر، لا ترك النكاح والأمر بتركه؛ فإنه كان موجودًا مع الأمر بما ذكرنا في الآية الكريمة؛ لما في ترك النكاح والاختصاء من الغلو في الدين، والتشديد على النفوس، والإجحاف بها؛ كما يفعله كثير من جهال المتزهدين وعباد المتنطعين.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: عدم الإقدام على ما تحدثه النفوس من غير سؤال العلماء عنه.
ومنها: ترك التنطع وتعاطي الأمور الشاقة على النفس.
ومنها: أن العلماء لا يأخذون الناس إلا بالشرع السهل، ورد المشاق عليهم.
ومنها: أن الإنسان قد يجتهد في أمور دينية، فلا يجوز له العمل باجتهاده من غير استناد إلى دليل شرعي، لكنه غير مأثوم في الاجتهاد، إذا كان مقصده صحيحًا، ويكون مخطئًا إذا خالف الشرع، مثابًا عليه إذا لم يجد فيه نصًّا، ولا من يرشده إلى الصواب.
واعلم أن الإخصاء في الآدمي حرام قطعًا، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، وكذا يحرم خصاء كل حيوان غير مأكول، وأما المأكول: فيجوز خصاؤه في صغره، ويحرم في كبره؛ لعدم طلب اللحم في خصاء الكبير، ووجوده في الصغير.
ومنها: عدم المنع من ملاذ الدنيا، خصوصًا إذا قصد بها وجه الله تعالى؛ من تلذذ بنعم الله تعالى، أو تعرف لذة ما وعد الله تعالى به في الدار الآخرة، أو تعريف النفس افتقارها وحاجتها إلى غيرها، أو الوقوف مع امتثال أمر الله تعالى، واجتناب نهيه، أو غير ذلك، والله أعلم.
* * *