الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حديث آخر: "ليسَ لهُ إلَّا ذلكَ، أو يمينُه"، وهو راجع إلى ما ذكرناه.
وفي الحديث دليل؛ على أن الخصم إذا قال في خصمه كلامًا يلزم منه عدم مبالاته بالقسم باللهِ للحاكم، أنَّه لا يُعزر، وإنما يُذكر له عقوبةُ من فعل ما قاله له في الآخرة من غضب الربِّ سبحانه وتعالى.
وفيه دليل: على أن أحكام الدنيا المتنازَعَ فيها متعلقُها الظاهر، دون بواطنها، والله أعلم.
وفي دليل: على أن الحاكم أو المفتي إذا ذكر حكمًا من أحكام الشرع الدنيوية والأخروية، أن يستوفي شرائطَ الحكم بذكرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلفَ على يمينٍ صبرٍ يقتطعُ بها مالَ أمريءٍ مسلمٍ، هو فيها فاجرٌ، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ"، فذكر صلى الله عليه وسلم في الشروط الاقتطاع بغير حق، وكونه مال معصوم، وكون الحالف فاجرًا في يمينه، ثم ذكر الحكم، وهو غضب الله تعالى، يعني: عليه، نعوذ بالله من غضب الله.
وهذا الحكم مشروط بعدم التوبة الشرعية، أما إذا تاب بشروطها؛ من الندمِ، والإقلاع، والعزمِ على عدمِ العود إلى المعصية، والاستحلالِ منها إن كان صاحبها موجودًا، والكفارةِ إن كان لها كفارة، فإن ذلك كله سبب لرضا الرب سبحانه وتعالى، والله أعلم.
* * *
الحديث السابع
عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه: أنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشجَرة، وَأَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غيرِ الإسْلَامِ كَاذِبًا مُتعمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتل نَفسَهُ بشِيءٍ، عُذِّبَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَملِكُهُ (1).
(1) رواه مسلم (110)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.
وَفي رِوَايةٍ: "ولَعنُ المُؤمنِ كَقَتلِهِ"(1).
وَفِي رِوَايةٍ: "مَنِ ادَّعَى دَعوَى كَاذِبةً لِيَتَكثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللهُ بِهَا إلَّا قِلَّةً"(2).
أما ثابت بن الضحاك؛ فكنيته: أبو زيد، اتفقوا على أنَّه أنصاريُّ من الخزرج، واختلف في نسبه إليهم، فقال أبو عمر النمري في "استيعابه": ثابت بن الضحاك بن أمية بن ثعلبة بن خيثم بن مالك بن سالم بن عمرو بن عوف بن الخزرج.
وقال أبو حاتم بن حبان: ثابت بن الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل بن خيثم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج.
وقد ذكر أبو عمر ما ذكره ابن حبان، صحابيًّا آخر، فكأنه التبس على ابن حبان؛ لأنهما اتفقا على أنَّه أخو أبي جبيرة بن الضحاك، وأنه من أصحاب الشجرة.
قال أبو عمر: وكان ممن بايع تحت الشجرة بيعةَ الرِّضوان وهو صغير، وأردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الخندق، وكان دليله إلى حمراءِ الأسد، هذا آخر كلامه.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر حديثًا، اتفقا على حديث واحد، ولمسلم آخر، روى عنه أبو قلابة الجرمي، وعبد الله بن معقل بن مقرن المزني، وكان ممن سكن البصرة، وروى عنه أهلها.
روى له أصحاب السنن والمساند، ومات سنة خمس وأربعين، وقيل: مات في فتنة ابن الزُّبير، وقال الحاكم أبو أَحْمد: إنه قتل بمرج راهط في الفتنة، سنة أربع وستين (3).
(1) رواه البُخَارِيّ (5754)، كتاب: الأدب، باب: من أكفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال، ومسلم (110)، (1/ 104)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.
(2)
انظر تخريج هذه الرواية عند مسلم في الحديث المتقدم.
(3)
وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 165)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم =
أما حقيقة الحلف، فهي القسم بالشيء بإدخال بعض حروف القسم عليه؛ كقوله: والرحمنِ، والله أعلم.
وقد أطلق الفقهاء اليمين على التعليق بالشيء؛ كقولهم: حلف بالطلاق على كذا، ومرادهم: تعليق الطلاق به، وهو مجاز؛ لشبهة اليمين في اقتضاء الحنث أو المنع، فلما كان التعليق باليمين مقتضيًا ذلك، أطلق عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"من حلفَ على يمينٍ بملةٍ غيرِ الإِسلامِ كاذبًا متعمدًا فهو كما قالَ".
فقوله: "بملةٍ غيرِ الإِسلام" يحتمل الإنشاء؛ كقوله: واليهودية، والنصرانية! ويحتمل التعليق؛ كقوله: إن فعلت كذا، فأنا يهودي أو نصراني، وهو الظاهر؛ لقوله:"كاذبًا متعمدًا"؛ إذ الكذب يدخل تحته القضية الإخبارية التي قد يقع مقتضاها وقد لا يقع. وأما الإنشائية؛ كقوله: والله!، وما أشبهه، فلا يتعلق بها كذب سوى تعظيم اليهودية أو النصرانية مثلًا بإنشاء الحلف بهما.
وتقدم الكلام على ذلك في الحديث الثالث من هذا الباب في النهي عن الحلف بالآباء مفصلًا، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن قتلَ نفسَه بشيءٍ، عُذِّبَ بهِ يومَ القيامةِ".
أعلم أن الله عز وجل لا تقاس أفعالُ العباد على أفعاله، ولا أحكامهم على أحكامه الخاصة به سبحانه وتعالى، والله عز وجل له حكمان:
أحدهما: تعلق العباد بذلك الحكم أمرًا ونهيًا، طلبًا ومنعًا.
والثاني: إيجادًا وتوقيفًا وقضاء وقدرًا.
فالأول متعلق بالمكلفين. والثاني: خاص برب المكلفين.
إذا ثبت هذا، فالخاص باللهِ لا مدخل لأحدٍ فيه، والمتعلق بالمكلفين لا مدخل لهم فيه سوى الوقوف عنده.
= (2/ 453)، و"الثِّقات" لابن حبان (3/ 44)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 205)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 446)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 359)، و"الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" لابن حجر (1/ 391)، و"تهذيب التهذيب" له أَيضًا (2/ 8).
ثم المتعلق بالمكلفين الذي يجب الوقوف عنده من الأمر والنهي، إنما تعلقه بهم في الدنيا، لا مدخل له في الآخرة سوى الجزاء عليه والمقابلة به، أو العفو عنه.
وقد يسمى المتعلق بالدنيا دينًا بالنسبة إلى وجوده فيها، بالنسبة إلى كونه غير طاعة، ولا يثاب عليه، وهو الذي قال فيه الصَّحَابَة رضي الله عنهم في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما ارتضوه من الخلافة: من ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، وهو التقديم في الصلاة، أحرى أن نرتضيه لدنيانا، وهو الخلافة والقيام بأعباء الأمة وسياستها.
وقد يسمى المتعلق بالدنيا دينًا أخرويًّا بالنسبة إلى كونه طاعة مثابًا عليه صاحبه.
فهذا النوع تقاس عليه أمور الدنيا كما فعل الصَّحَابَة رضي الله عنهم في استخلاف الصديق؛ قياسًا على التقديم في الصلاة.
أما ما كان من أمور الآخرة محضًا؛ كالعذاب والثواب، والمقابلة والعفو، ونحو ذلك، فلا مدخل للقياس فيه، وإنما يجب الوقوف عنده على مورد النصوص والتوقيف.
إذا عرفت ذلك جميعه، فقوله صلى الله عليه وسلم:"ومن قتلَ نفسَه بشيءٍ عُذِّبَ به يومَ القيامة" هو من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، لا من باب القياس للأمور الأخروية على الدنيوية؛ لأن أفعال الله تعالى المتعلقة بأحكامه في الأخرى تباين أفعالنا المتعلقة بأحكامه في الدنيا، فلا تشرع لنا في الدنيا أن نفعلها في الدنيا؛ كالتحريق بالنيران، والعذاب بالسباع والعقارب والحيات، وسقي الحميم المقطِّع للأمعاء، والذي يشرع لنا في الدنيا، إنما هو بطريق النصوص التي تدل عليها أحكامها، أو القياس على النصوص عند العلماء بالقياس الذي من شرطه أن يكون حكمًا مقيسًا عليه أصلًا، أما ما كان فعلًا لله عز وجل في الدنيا، فلا يباح لنا، فإن لله تعالى أن يفعل ما يشاء بعبادة،
ولا يحكم عليه، وليس لنا أن نفعل بهم إلَّا ما أذن لنا فيه بواسطة، أو بغير واسطة، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وليسَ على رجلٍ نذرٌ فيما لا يملكُ": عدم الملك تارة يكون لعدم تصور (1) دخوله في الملك شرعًا، وتارة يكون لعدم تصور دخوله في الملك الآن حسًّا.
فالأول: لا يتعلق به النذر اتفاقًا؛ لأن الملك لا يتصرف فيه في وقت من الأوقات، ولا في حال من الحالات.
والثاني: مختلف فيه؛ نظرًا إلى وجود النذر وعدم الملك في تعلق النذر به وعدمه.
مثال الأول: لله عليَّ أن أتصدق بثمن خمر أو ميتة بيده، أو ما ربحته بسبب الربا، ونحو ذلك، فهذا لا يصح نذره، ولا يتعلق بالمنذور به وجوب؛ حيث نفى الشارع أن يكون على الرَّجل نذر فيما لا يملك، فيحمل النفي على عدم الصحة في النذر؛ لكونه لا يملك؛ ذلك لعدم دخوله في الملك شرعًا.
ومثال الثاني: في التصرفات الواقعة قبل الملك: كما لو نذر نذرًا متعلقًا بما لا يملكه في الحال، كما لو نذر عتق عبدِ غيرِه، أو باعه مثلَا قبل ملكه، فهذا لاغٍ بالاتفاق.
وحكي عن بعض العلماء أنَّه يصح في العتق إذا كان موسرًا، ويقوَّمُ عليه، ويعتق عليه، وقيل: إنه رجع عنه.
وبنى العلماء على هذه التصرفات المتعلقة بالملك؛ كتعليق الطلاق بالنكاح مثلًا قبل وجود النكاح، فالشافعي يلغي ذلك كالأول، ومالك وأبو حنيفة يعتبرانه.
وقد يستدل للشافعي بهذا الحديث وما يقاربه، ومخالفوه يحملونه على
(1) ساقطة من "ح".
التخيير، أو يقولون بموجب الحديث؛ فإن التقييد إنما يقع بعد الملك، فالطلاق -مثلًا- لم يقع قبل الملك، فمن ها هنا يجيء القول بالموجب.
ولا شك أن الوفاء بالنذر قربة يجب الوفاء به عند وجود المعلق عليه، وهو الشرط؛ بخلاف الطلاق المعلق بالنكاح، وغير المعلق؛ فإنَّه في أصله غير قربة، بل هو مكروه، وتعليقه قبل النكاح أشد كراهة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"أبغضُ الحلالِ إلى الله تعالى الطلاقُ"(1)، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولعنُ المؤمنِ كقتلِهِ" اللعنُ: هو دعاء بالقطع عن رحمة الله تعالى، والقتلُ: هو موتٌ وقطعٌ عن التصرفات، فقوله:"كقتله"، إما أن يراد به في أحكام الدنيا؛ من حيث إن القتل يوجب القصاص، وليس الأمر في لعنه المؤمنَ موجبًا للقصاص، فيحمل على أنَّه كقتله في الإثم، وهو من أحكام الآخرة، فإن أريد به التساوي في الإثم أو العقوبة، لم يتجه؛ لأن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل، وليس إذهاب الروح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعنة، وكذلك العقاب بحسب الجرائم. قال الله عز وجل:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة:7 - 8]، وذلك دليل على التفاوت في العقاب والثواب، بحسب التفاوت في المصالح والمفاسد، فالخيور مصالح، والشرور مفاسد.
وإن أريد باللعن قطعَ منافعه الأخروية عنه، وبعدَه منها بإجابة لعنته، فهو مثل من قُتل في الدنيا وقُطعت عنه منافعه فيها، وإن أريد استواء اللعن بالقتل في أصل التحريم والإثم، [فهو يحتاج إلى تلخيص ونظر. ولا شك أن التحريم والإثم](2) متقاربان في المعنى؛ من حيث إن الإثم مترتب على فعل التحريم، فإن أريد الاستواء في أصل التحريم والإثم، فكل معصية قلت أو عظمت، مستويةٌ مع القتل فيه.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
ما بين معقوفين من "ح".
لكن المفهوم من الحديث تعظيم أمر اللعنة؛ بتشبيهها بالقتل؛ للزجر عنها، وإن أريد الاستواء في المقدار، فقد تبين امتناعه؛ بدليل التفاوت في العقاب والثواب.
واعلم أن اللعنة قد تطلق على نفس الإبعاد، الذي هو فعل الله عز وجل، وهو الذي تقع به السُّبَّة، وقد يطلق على فعل اللاعن، وهو طلبه لإبعاد الله عز وجل للشخص المسلم بقوله: لعنه الله -مثلًا-، أو بوصفه له بالإبعاد، بقوله: لعنه الله -مثلًا-، أو فلان ملعون.
وكل هذا ليس يقطع عن الرحمة بنفسه ما لم تتصل به الإجابة، فتكون تسببًا إلى قطع التصرف، فيكون نظير التسبب إلى القتل، فمباشرة القتل بالسبب الغامض؛ كالحز وغيره من مقدمات القتل، مفضٍ إلى القتل بمطرد العادة، فلو كان مباشرة اللعن مفضيًا إلى الإبعاد الذي هو اللعن دائمًا، لا يستوي اللعن مع مباشرة مقدمات القتل، أو زاد عليه، وليس كذلك، فافترقا.
وقد يقتضي اللعن له قصده إخراجه عن جماعة المسلمين؛ فإن الجماعة رحمة؛ كما لو قتله، فإن قصدَه إخراجه لا يستلزم إخراجه كما تستلزم مقدمات القتل، وذلك يقتضي قطعَ منافعه الأخروية عنه بإجابة دعوته؛ فإن ذلك لا يحصل إلَّا بها، وقد لا يجاب في كثير من الأوقات، فلا يحصل انقطاعه عن منافعه كما يحصل بها، ولا يستوي القصد إلى القطع بطلب الإجابة مع مباشرة مقدمات القتل المفضية إليه في مطرد العادة، لكن الممكن في تقرير الحديث ظاهرًا واستوائهما في الإثم: أن مجرد أذاه باللعنة مع قصد إجابة الدعاء فيه؛ بموافقة ساعة الإجابة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْعُوا على أنفسِكم، ولا تَدْعوا على أموالِكم، ولا تَدْعوا على أولادِكْم، لا توافِقوا ساعة"(1) الحديث هو المساوي للقتل أو أعظم منه؛ لأن القتل تفويت الحياة الفانية قطعًا، والإبعاد من رحمة الله
(1) رواه مسلم (3009)، (4/ 2304)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطَّويل، وقصة أبي اليسر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
تعالى أعظمُ ضررًا بما لا يحصى، وقد يكون أعظمُ الضررين -على سبيل الاحتمال- مساويًا أو مقاربًا لأخفهما على -سبيل التحقيق-، ومقادير المصالح والمفاسد، وأعدادهما أمرٌ لا سبيل إلى البشر إلى الاطلاع على حقائقه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ادَّعى دَعْوى كاذبةً ليتكثَّرَ بها لم يزدْهُ اللهُ إلَّا قِلَّةً":
أعلم أن الادعاء لغير حاجة دينية صادقًا لا يُفعل؛ لأنه عبث لا مصلحة فيه، ويؤدي إلى التكثر، وهو ممنوع شرعًا؛ لأن التكثر لا يُشرع إلَّا على الكفار والمنافقين والمعاندين بالحق أو للحق، وما شاكل ذلك، فإن كان كاذبًا في دعواه متكثرًا، كان إثمه حرامًا شديد التحريم، وإثمه أشد، وكان مع ذلك سببًا لقلة فاعله، مراغمة لقصده وكذبه وتكثره، وقد تكون القلة لمجرد الإثم الحاصل له بسبب دعواه كذبًا وتكثرًا، وقد يكون أمرًا زائدًا على ذلك؛ حيث إن النفس حقيرة مزدولة مقامها ذلك، فهذا قصدت ضد ذلك، حصل لها الإثم المترتب على التحريم بالكذب والتكثر الموجبين للقلة الشرعية، وحصلت الزيادة عليها في القلة بقصد ذلك، والله أعلم.
وفي الحديث أحكام:
منها: تحريم الحلف بملة غير الإِسلام؛ كاليهودية والنصرانية ونحوهما مطلقًا، وكذلك تعليق الحلف بهما.
وتقدم ذكر الكفارة فيه وعدمها، وسواء في التعليق بهما تعليقه بالمستقبل أو الماضي في التحريم.
وأما الكفارة، فإن كان مستقبلًا، لم تتعلق به كفارة عند المالكية والشافعية، ويتعلق به عند الحنفية.
وأما في الكفر، فإن قصد الحلف بها تعظيمًا، فهو كفر عندهم؛ حيث أقدم على الحلف بها، وذلك متضمن الرضا بالكفر فيكون كفرًا.
وقد اختلف الحنفية في الكفر بالحلف معلقًا على الماضي، فقيل: لا يكفر
اعتبارًا بالمستقبل، وقيل: يكفر؛ لأنه يتخير معنى، فصار كما لو قال: هو يهودي أو نصراني.
والصحيح عندهم: أنَّه لا يكفر فيما قاله بعضهم فيهما: إن كان يعلم أنَّه يمين، وإن كان عنده أنَّه يكفر بالحلف به، كفر فيهما؛ لأنه رضي بالكفر؛ حيث أقدم على الفعل، والله أعلم.
ومنها: تحريم الجناية على نفسه بالقتل، وأنه يأثم بذلك؛ حيث إنها ليست ملكًا [له] وإنما هي ملك لله عز وجل لا يتصرف فيها إلَّا بما أذن له فيه.
وقد تعلق المالكية بهذا الحديث على المماثلة في القصاص، فيُقتل بما قُتل به، محددًا كان أو غيره، خلافًا للحنفية، اقتداء بعقاب الله تعالى يوم القيامة لقاتل نفسه. وقد تقدم تقرير ما يتعلق بذلك قريبًا.
ومنها: منع النذر فيما لا يملك، لكن هل تجب عليه فيه كفارة يمين؛ فيه خلاف للعلماء:
قال الشَّافعيّ، ومالك، وأبو حنيفة، وداود، وجمهور العلماء: لا تلزمه كفارة يمين ولا غيرها.
وقد روى مسلم في "صحيحه": أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا وفَاء لنذرٍ في معصيةٍ،
ولا فيما لا يملكُ العبدُ" (1)، وهو محمول على ما إذا أضاف النذرَ إلى معين ولا يملكه، بأن قال:[إن] شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبد فلان، أو أتصدق بثوبه، أو بداره، أو نحو ذلك.
فأما إذا التزم في الذمة شيئًا لا يملكه، فيصح نذره، بأن قال:[إن] شفى الله مريضي، فلله علي عتق رقبة، وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها، فيصح نذره، وإذا شفى مريضه، ثبت العتق في ذمته.
وقال أَحْمد: يجب في النذر في المعصية ونحوها كفارةُ يمين؛ لحديث روي
(1) رواه مسلم (1641)، كتاب: النذر، باب: لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد، عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
عن عمران بن الحصين وعائشةَ رضي الله عنهم عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه قال: "لا نذرَ في معصيةٍ، وكفارتُه كفارةُ يمين"(1)، وهو حديث ضعيف باتفاق المحدثين، وتقدم عدم الملك في النذر، والكلام عليه قريبًا، والله أعلم.
وفي "صحيح مسلم": أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: قال: "كفارةُ النذرِ كفارةُ اليمينِ"(2). وهذا مطلق في كل نذر، ولم يقل به أحد فيما روي عنه، وهو محمول عنده، وعند بعض أصحاب الشَّافعيّ على نذر المعصية.
وحمله جمهور الشافعية على نذر اللِّجاج، وهو أن يقول: إن كلمتُ زيدًا -مثلًا- فلله على كذا، فيكلمه، فهو بالخيار بين كفارة يمين، وبين ما التزمه.
وحمله مالك وكثيرون أو أكثرون، وجماعة من فقهاء أصحاب الحديث على النذر المطلق، فيدخل فيه جميع أنواع النذر، وقالوا: هو غير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزمه، ويين كفارة يمين، وهذا هو الراجح المختار، والله أعلم.
ومنها: تغليظ التحريم في لعن المؤمن ووجوب احترامه ورعايته؛ حيث إن الأيمان سبب للقرب من الله تعالى، وتقريب المؤمن هو سبب إيمانه، فمن قصد بعده من الله عز وجل، أو دعا به عليه، فقد راغم ما جعله الله تعالى سببًا لقربه. ومن راغم جعل الله عز وجل، فأقلُّ درجاته أن يكون فعلُه محرَّمًا، وإن لم يكن كفرًا مطلقًا، فهو مقيد، والله أعلم.
ومنها: تحريم الدعوى تكثرًا كاذبًا، وذمُّ التكثر والكذب، وتحريم تعاطي أسباب القلة المعنوية؛ حيث إن من لم يفعل ذلك، يزيده الله بسبب فعله القلة؛ مراغمة لقصده الكثرةَ غيرَ المأذون فيها، والله أعلم.
(1) رواه أبو داود (3290)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، والنَّسائيّ (3835)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كفارة النذر، والتِّرمذيّ (1525)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نذر في معصية، وقال: غريب، وابن ماجه (2125)، كتاب: الكفارات، باب: النذر في المعصية.
(2)
رواه مسلم (1645)، كتاب: النذر، باب: في كفارة النذر، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.