الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع
عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي -عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحةَ-: لَا أَرْضَى حَتَّى يَشْهَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيشْهِدَهُ عَلَى صدَقَتِي، فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَينَ أَوْلَادِكمْ"، فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ (1). وفي لفظٍ قالَ:"فَلَا تُشْهِدْنِي إذَنْ؛ فَإنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ"(2). وفي لفظٍ: "فأشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي"(3).
تقدَّم الكلام على النُّعمان بن بشير، في باب: الصفوف.
وأَمَّا عَمْرَةُ بنْتُ رَوَاحةَ؛ فهي أختُ عبد الله بن رواحة، وزوجةُ بشير بن سعد الأنصاري، وأمُّ النُّعمان بن بشير رضي الله عنهم، لما ولدت النُّعمان، حملته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بتمرة، فمضغها، ثم ألقاها في فيه، فحنَّكه بها، فقالت: يا رسول الله! ادعُ اللهَ له أن يُكثر ماله وولده، فقال:"أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ يعيشَ كَمَا عاشَ خَالُه حَميدًا، وقُتل شَهيدًا، ودَخَلَ الجنة؟ "(4)، ومن حديثها عن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وَجَبَ الخُروج -يعني: في الجِهاد- عَلَى كلِّ ذاتِ نِطاقٍ"(5).
(1) رواه البُخاريّ (2447)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: الإشهاد في الهبة، ومسلم (1623)، (3/ 1242)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(2)
رواه البُخاريّ (2507)، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم (1623)، (3/ 1243)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(3)
رواه مسلم (1623)، (3/ 1243)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(62/ 120).
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 358)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"(2421)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(3420)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(7152)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 163)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(4/ 63)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 306). =
وأمَّا الجَوْرُ لغة: فهو الميل عن السواءِ والاعتدالِ، فكل ما خرج عن ذلك، فهو جور، سواء كان حرامًا، أو مكروهًا (1)، وقد يكون في الشرع للحرام، وقد يكون للمكروه، وقد استعمل فيه بمعنى الضلال، وبمعنى الظلم، وكلاهما محرمان.
وفي الحديث أحكام:
منها: جواز تسمية الهبة صدقة.
ومنها: شرعية الإشهاد عليها.
ومنها: أن للأمِّ كلامًا في مصلحة الولد وماله بحضرة أبيه، وأنه مسموع.
ومنها: أن المفتي والشاهد لا يفتي ولا يشهد إلَّا بما يسوغ في الشرع.
ومنها: وجوب الرجوع في الأقوال والأعمال في المعاملات وغيرها إلى العلماء.
ومنها: سؤال العالم والمفتي والشاهد عن شرط الحكم، وما يسوغ فعله، سواء كان الشرط واجبًا أو مندوبًا.
ومنها: أمرُ مخالفِ ذلك بتقوى الله، والعدلِ بين الأولاد.
ومنها: المبادرة إلى قبول قول الحق من غير تأخير، ولا حرج في النفس.
ومنها: التسوية بين الأولاد في العطية من غير تفضيل، وقد ذكرت الحكمة
= قلت: قول المؤلف رحمه الله شارحًا قوله صلى الله عليه وسلم: "وجب الخروج" -يعني: في الجهاد- غريب جدًّا، فقد صرّح في رواية أبي يعلى والخطيب أن ذلك في العيدين، وبوّب عليه البيهقي في "السنن" بقوله: باب خروج النساء إلى العيد. وقد روى ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(3422) عن أبي بكر رضي الله عنه قال: حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين، ولابن أبي شيبة في "المصنف"(5786) نحوه عن عليّ رضي الله عنه.
* وانظر ترجمة عمرة بنت رواحة رضي الله عنها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 361)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 324)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1887)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 198)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 31).
(1)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 153)، (مادة: جور).
من الشارع في ذلك؛ بمحبة الوالدان أن يكون بِرُّهم له على السواء، فكذلك عطيته لهم على السواء.
ولما كان التفضيل يؤدي إلى الأنجاش، والتباغض؛ بعدم برِّ الولد لوالده؛ لكونه فضل غيره عليه في العطية، منع الشارع منه، وأمر بالتسوية بينهم.
واختلف العلماء في هذه التسوية: هل يسلك بها مسلك الميراث في أن للذكر مثل حظ الأنثيين؟ أم يسوي بين الذكر والأنثى من غير تفضيل؟
وظاهر الحديث يقتضي التسوية، وهو المشهور في مذهب الشَّافعي وغيره، فلو فضل بعضهم، أو وهب بعضهم دون بعض، فقد اختلف الفقهاء فيه، هل هو محرم أو مكروه؟ فقال طاوس، وعروة، ومجاهد، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وداود: هو حرام؛ لتسميته صلى الله عليه وسلم ذلك جورًا، ورجوع الواهب فيها، مع أن العائد في هبته كالعائد في قيئه، لا سيما وقد سمَّاها صدقة عليه، والصدقة على الولد لا يجوز الرجوع فيها، فالرجوع حينئذ هنا يقتضي أنها وقعت غير الموقع الشرعي؛ فلهذا نقضت بعد لزومها.
وقال الشَّافعي، ومالك، وأبو حنيفة: هو مكروه كراهة تنزيه، وقد استدلَّ على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"فَأشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيرِي"؛ فإنّه يقتضي إباحة إشهاد الغير، ولا يباح ذلك إلَّا في أمر جائز، ويكون امتناع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من الشهادة على وجه التنزيه.
قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد رحمه الله: وليس هذا بالقوي عندي؛ لأنَّ الصيغة، وإن كان ظاهرها الإذن، إلَّا أنَّها مشعرة بالتنفير الشديد عن ذلك الفعل؛ حيث امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن المباشرة لهذه الشاهدة؛ معللًا بأنها جور، فتخرج الصيغة عن ظاهرها في الإذن بهذه القرائن، وقد يستعمل مثل هذا اللفظ في مقصود التنفير، ومما يستدلُّ به عن المنع أيضًا قوله عمر:"اتَّقُوا الله"؛ فإنّه يؤذن بأن خلاف التسوية ليس بتقوى الله، وأن التسوية تقوى، هذا آخر كلامه (1).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 216 - 217).