الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنْ عَائشِةَ رضي الله عنها أَيضًا، قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتبةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ أبا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِيني مِنَ النَّفَقَةِ مَا يكْفِيني وَيكْفِي بَنِيَّ، إلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغيرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ في ذلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالمَعْرُوفِ مَا يكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ"(1).
أما هند بنت عتبة؛ فهي أم معاوية، أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان بن حرب، فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحهما.
وهي هند بنت عتبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبد شمس بن عبد مناف، وكانت امرأة لها ذِكْرٌ ونفسٌ وأنَفَة، شهدت أحدًا كافرة مع زوجها أبي سفيان، ثم ختم الله لها بالإِسلام، فأسلمت يوم الفتح، فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على النساء -ومن الشرط فيها: ألا يسرقن ولا يزنين-، قالت له هند بنت عتبة: وهل تزني الحرة وتسرق يا رسول الله؟ فلما قال: "ولا تقتلن أولادكن"، قالت: قد ربيناهم صغارًا، وقتلتهم أنت ببدر كبارًا، أو نحو هذا من القول (2)، وشكت حينئذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زوجها أبا سفيان
…
الحديث.
توفيت رضي الله عنها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة والدُ أبي بكر الصديق، ومات أبو قحافة في المحرم سنة أربع عشرة، والله أعلم (3).
(1) رواه البخاري (5049)، كتاب: النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل، فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، ومسلم (1714)، كتاب: الأقضية، باب: قضية هند، وهذا لفظ مسلم.
(2)
رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده"(4754)، عن عائشة رضي الله عنها.
ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(8/ 237)، عن ميمون بن مهران، ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(70/ 177)، عن عروة بن الزبير رضي الله عنه.
(3)
وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 235)، و"الثقات" لابن حبان =
وأما أبو سفيان؛ فاسمه: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأمويُّ، القرشي، والد معاويةَ ويزيدَ وعتبةَ وإخوتهم، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أشراف قريش في الجاهلية، وكان تاجرًا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانًا بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكانت لا يحبسها إلا رئيس، فإذا حميت الحرب، اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية بيد الرئيس، ويقال: أفضل قريش في الجاهلية ثلاثة: عتبة، وأبو جهل، وأبو سفيان، فلما أتى الله بالإِسلام، أدبروا في الرأي، وكان أبو سفيان صديق العباس ونديمَهُ في الجاهلية.
أسلم أبو سفيان يوم الفتح، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنينا، وأعطاه من غنائمها مئة بعير وأربعين أوقية وزنَها له بلال، وأعطى ابنيه يزيدَ ومعاوية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:"مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمِن"(1).
مات أبو سفيان في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: سنة اثنتين، وقيل: إحدى، وقيل: أربع وثلاثين، وصلى عليه ابنه معاوية، وقيل: بل صلى عليه عثمان بموضع الجنائز، ودفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل: ابن بضع وتسعين سنة، وممن قتل من أولاده يوم بدر كافرًا: ابنه أبو حنظلة، وبه كانت كنيته كنية ثانية، والله أعلم (2).
= (3/ 439)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1922)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (70/ 166)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 281)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 620)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 155).
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 310)، و "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 363)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 426)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 193)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 714)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (23/ 421)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 9)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 521)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 119)، و"سير أعلام النبلاء" للذهيي (2/ 105)، و"الإصابة في تمييز =
قولها: "إن أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ" شحيح؛ فعيل: مبالغة في الشح، وهو أشد البخل، وقيل: الشح والبخل سواء.
وفي الحديث أحكام:
منها: وجوب نفقة الزوجة.
ومنها: وجوب نفقة الأولاد الصغار.
ومنها: أن النفقة مقدرة بالكفاية لا بالأمداد.
وقال أصحاب الشافعي: نفقة القريب مقدرة بالكفاية كما في هذا الحديث، ونفقة الزوجة مقدرة بالأمداد على الموسر، كل يوم مُدانِ، وعلى المعسر مُدٌّ، والمتوسط: مد ونصف. وهذا الحديث يرد عليهم.
ومنها: جواز سماع كلام الأجنبية عند الإفتاء والحكم، وكذا ما في معنى ذلك.
ومنها: ذكر الإنسان بما يكرهه إذا كان للاستفتاء والشكوى ونحوهما، وهذا مستثنى من المنع من الغيبة.
ومنها: أن من له على غيره حق، وهو عاجز عن استيفائه، يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه، وهذا مذهب الشافعي وأصحابه، ومنع ذلك أبو حنيفة ومالك.
ومنها: جواز إطلاق الفتوى من غير تعليق بثبوت؛ كما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاج في فتواه أن يقول المفتي: إن ثبت، كان الحكم كذا وكذا، ولو قاله، فلا بأس، والتحرير: أن يقول: الحكم كذا وكذا، وحكم الحاكم به لصاحبه يتعلق بالثبوت.
وقد اختلف أصحاب الشافعي في إذن النبي صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان هذه هل كان إفتاء أم قضاء؟
= الصحابة" لابن حجر (3/ 412)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (4/ 361).
والأصح: أنه كان إفتاء، وأن هذا يجري في كل امرأة أشبهتها، فيجوز.
والثاني: كان قضاء، فلا يجوز لغيرها إلا بإذن القاضي، وطريق الثبوت البينة أو الإقرار، أو علمُ الحاكم به على قول من يرى الحكم بالعلم.
ومنها: أن للمرأة مدخلًا في كفالة أولادها والإنفاق عليهم من مال أبيهم.
قال أصحاب الشافعي: إذا امتنع الأب من الإنفاق على الولد الصغير، أو كان غائبا، أذن القاضي لأمه في الأخذ من مال الأب أو الاستقراض عليه، والإنفاق على الصغير بشرط أهليتها، وهل لها الاستقلال بالأخذ من ماله بغير إذن القاضي؟
فيه وجهان مبنيان على الوجهين اللذين ذكرناهما آنفا في أمر هند امرأة أبي سفيان، هل كان إفتاءً أم قضاءً؟
ومنها: جواز اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي.
ومنها: جواز خروج المرأة المزوجة من بيتها لحاجتها من المحاكمة والاستفتاء وغير ذلك.
ومنها: أن ما يذكر في الاستفتاء لأجل ضرورة معرفة الحكم، إذا تعلق به أذى الغير، لا يوجب تعزيرًا، وقد استدل به جماعة من أصحاب الشافعي على جواز القضاء على الغائب، وفيه ضعف، وربما لا يصح الاستدلال به لذلك؛ من حيث إن القضية كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها، وكان السؤال على سبيل الفتوى لا في معرض الدعوى، ولا يقضى على الغائب الحاضر في البلد مع إمكان إحضاره وسماعه للدعوى عليه إلا في وجه ضعيف، فلو كان مستترًا لا يُقدر عليه، أو متعززًا، جاز القضاء عليه، وأبو سفيان لم يوجد في قصته هذه شيء من ذلك.
وقد أخذ من الحديث الاستدلال على مسألة الظفر بالحق وأخذه من غير مراجعة من عليه، وليس في الحديث تعرض لجواز الأخذ من الجنس أو من غير الجنس، ومن يستدل بالإطلاق في مثل هذا، يجعله حجة في الجميع، والله أعلم.