الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الطَّلَاقِ
الطَّلاقُ مشتق من الإطلاق، وهو الإرسال والترك، ومنه: طَلَّقتُ البلاد؛ أي: تركتُها. ويقال: طلَقت المرأة، وطلُقت، -بفتح اللام وضمها-، والفتح أفضل (1).
* * *
الحديث الأول
عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَر ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه لرسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَغَيَّظَ فيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:"لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكهَا حَتَّى تَطهُرَ، ثُمَّ تَحِيضُ فَتَطْهُرُ، فَإنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ العِدَّةُ، كَمَا أَمَرَ اللهُ عز وجل"(2).
وفي لفظٍ: "حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِها الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا"(3).
وفي لفظٍ: فَحُسِبَت مِنْ طَلَاقِهَا، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللهِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (4).
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 60)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 227)، (مادة: طلق).
(2)
رواه البخاري (4625)، كتاب: التفسير،
باب:
تفسير سورة التغابن.
(3)
رواه مسلم (1417)، (2/ 1095)، كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها.
(4)
انظر: تخريج الحديث المتقدم.
أما ذِكرُ عمر رضي الله عنه طلاقَ ابنهِ عبدِ الله امرأتهَ وهي حائض، فالظاهر أنه لمعرفة الحكم فيه.
وأَمَّا تَغيُّظُه صلى الله عليه وسلم فيه؛ فيحتمل أمرين:
أحدهما: لكونه فَعَلَ ما يقتضي المنع ظاهرًا من غير تثبت.
والثاني: لتركه المشاورة له صلى الله عليه وسلم في فعله ذلك إذا عزم عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم لِعُمَر: "لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكهَا حَتى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضُ فَتَطْهُرُ"؛ ظاهره الأمر بالمراجعة لمن طلَّق امرأته في الحيض، وأن امتداد المنع من الطلاق إلى أن تطهر من الحيضة الثانية؛ لأن صيغة (حتى) للغاية.
ولا شكَّ أن الأمر بالرجعة في ذلك ليس هو لأجل الطلاق في الحيض، إنما هو لأجل استمرار استباحة وطئها؛ حيث إن دوام المعاشرة لها في الحيض سبب للوطء في الطهر بعده، فبالدوام على حكم الطلاق يمتنع الوطء فيه، والتلذذ بها قبله، إما بالمباشرة في غير الفرج، أو فيما فوق الإزار، وإما بغيره، فتكون الرجعة سببًا لدوام العشرة وعدم الطلاق، فنبه صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمراجعة، على أنها ليست لغرض الطلاق، بل لظهور فائدتها.
ومن العلماء من أجاب بأن فائدتها: العقوبة له؛ ليكون سببًا لتوبته من معصيته، واستدراك خيانته، لكن ما ذكرناه أولًا أظهر؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان جاهلًا بحكم الطلاق في الحيض؛ ولهذا سأل أبوه عمر رضي الله عنه. ومعلومٌ أنه ليس من فعل معصية جاهلًا كمن فعلها عالمًا، خصوصًا قبل حكم الشرع. مع أن نظر الشرع دائرٌ بين موافقة الأمر ودوام النكاح وحسن العشرة، فالمراجعة بعد الطلاق في الحيض، أقرب مما ذكر، والله أعلم.
ثم من العلماء من علَّل امتناع الطلاق في الحيض؛ بتطويل العدة، فإنَّ الحَيْضَة التي طلقت فيها لا تحسب من العدة، فيطول زمان التربُّص، ومنهم من علَّله بوجود الحيض فقط وصورته، وبنوا على العلتين مسألتين:
إحداهما: إذا طلقها في الحيض وهي حامل، وقلنا: إن الحامل تحيض،
فمن علَّل بتطويل العدة، لم يحرم؛ لأن انقضاءها هنا بوضع الحمل على كل حال. ومن علَّل بالحيض، وأراد الحكم عليه، حرم الطلاق فيه، وهو الظاهر من إطلاق الحديث؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر بالمراجعة من غير استفصالٍ ولا سؤال عن حالِ المرأة في الحملى والحيال، وترك الاستفصال في مثل هذا ينزل منزلة عموم المقال عند جميع أرباب الأصول.
المسألة الثانية: إذا سألت المرأة الطلاق في الحيض: فإن علَّلنا بتطويل العدَّة عليها، لم يقتض تحريمه فيه؛ لأنها رضيت بإدخال الضرر عليها بسؤالها الطلاق فيه، وإن علَّلنا بصورة الحيض ووجوده، حرمه، والعمل بظاهر الحديث أولى في ذلك؛ لترك الاستفصال فيه.
وقد يجاب في المسألتين بالأصل؛ فإن الأصل عدم السؤال وعدم الحمل.
واعلم أن الأمَّة أجمعت على تحريم الطلاق في الحيض بغير رضا الزوجة، فلو طَلَّقها، أَثِمَ، ووقعَ طلاقُه، ويؤمر بالرجعة، وإن شذَّ بعضُ أهلِ الظاهر، وقال: لا يقع طلاقه؛ لأنه غير مأذونٍ له فيه، فأشبه طلاقَ الأجنبية، وذلك باطل؛ للأمر بمراجعتها؛ لأنه لو لم يقع، لم يكن رجعةٌ، فإن قيل: المراد بالمراجعة في الحديث: الرجعة اللُّغوية، وهي الردُّ إلى حالها الأول، من غير احتساب طلقةٍ، قلنا: هذا غلط؛ حيث إن الحقيقة الشرعية مقدَّمة على اللُّغوية باتفاق أهل أصول الفقه.
كيف وابن عمر قد صرَّح بأنها حُسِبت من طلاقِها، وراجعها كما أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟
واعلم أن الطلاق يقع في الشرع على أربعة أقسام: حرام، ومكروه، وواجب، ومندوب، ولا يكون مباحًا مستوي الطرفين.
فأمَّا الواجب: ففي صورتين:
إحداهما: في الشقاق بين الزوجين، إذا ترافعا إلى الحاكم وبعثهما إلى حكمين، ورأيا المصلحة في الطلاق، وجب عليهما الطلاق.
الثانية: في المؤلي إذا مضت عليه أربعة أشهر، وطالبته المرأة بحقِّها، فامتنع من الفيئة والطلاق، فإنَّ الصحيح من القولين للشافعي: أنه يجب على القاضي أن يطلق عليه طلقة رجعية.
وأما المكروه: فإن يكون الحال مستقيمًا بينهما، فيطلق بلا سبب، وعليه يُحمل قولُه صلى الله عليه وسلم:"أبغضُ الحَلالِ إِلَى اللهِ تَعالى الطَّلاقُ " رواه أبو داود، وغيره (1).
وأما الحرام؛ ففي ثلاث صور:
إحداها: في الحيض بلا عوض منها، ولا سؤالها.
والثانية: في طهر جامعها فيه قبل بيان الحمل.
والثالثة: إذا كان عنده زوجات، فقسم لهن، فطلَّق واحدة منهن قبل أن يوفيها قسمها.
وأما المندوب: فهو ألا تكون المرأة عفيفة، أو يخافا، أو أحدهما ألا يقيما حدود الله، أو نحو ذلك، والله أعلم.
وأما جمع الطلقات الثلاث دفعةً، فليس بحرام عند الشافعية، لكن الأَوْلى تفريقها، وبه قال أحمد، وأبو ثور.
وقال مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والليث: هو بدعة.
وهذا كله فيما إذا طلق من غير أن يجعله يمينًا يمتنع به ويمنع به؛ فإنه مكروه قطعًا، ولو قيل: إنه حرام، لم يمتنع، والله أعلم.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "لِيُراجِعْهَا" وفي لفظ مسلم: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"؛ يتعلق بذلك مسألة أصولية، وهي: أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو أمر بذلك الشيء، أم لا؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"، وفي لفظ الكتاب:"لِيُرَاجِعْهَا"،
(1) رواه أبو داود (2178)، كتاب: الطلاق، باب: في كراهية الطلاق، وابن ماجه (2018)، كتاب: الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد، والحاكم في "المستدرك"(2794)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 322)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
فالأمر لعبد الله كان من عمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال، فلا ينبغي أن ينظر في الأحكام المتعلقة بالأمر أنها أمر أم لا.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا"؛ معناه: قبل أن يطأها.
وإنما كان الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه بدعيًّا حرامًا؛ لخوف الندم، حيث إن المسيس سبب الحمل، وحدوث الولد، وذلك سبب للندامة على الطلاق، بخلاف ما إذا تبين الحمل، وطلقها بعد ذلك؛ فإنه يكون من أمره على تصبره، فلا يندم؛ فلا يحرم.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "فَتِلْكَ العِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللهُ"؛ بعدَ قوله: "ثم لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضُ فَتَطْهُرَ، فَإنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا" تصريح بأن الأقراء المذكورة في القرآن هي الأطهار؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فإن بدا له أن يطلقها، فليطلقها" بعد قوله: "ثُمَّ تَحِيضُ فتَطْهُرُ" مع أن الله تعالى لم يأمر بطلاقهن في الحيض بل حرمه، فدل ذلك جميعه على أن الأقراء: الأطهار، وأن الإشارة بقوله به صلى الله عليه وسلم:"فتلك العدةُ" إليها، فإن قيل: الضمير في قوله: "فتلك" يعود إلى الحيضة، قلنا: هذا فاسد؛ حيث إن الطلاق في الحيض غير مأمور به، بل محرم، وإنما الإشارة بها عائد إلى الحالة المذكورة، وهي في حالة الطهر، أو إلى العدة.
وأجمع العلماء من أهل الفقه والأصول واللغة، على أن: القُرْءَ في اللغة يطلق على الحيض وعلى الطهر.
واختلفوا في الأَقراء المذكورة في القرآن في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وفيما تنقضي به العدَّة، فقال مالك، والشافعي، وآخرون: هي الأطهار، وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، وآخرون: هي الحيض، وهو مروي عن عمر، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال الثَّوريُّ، وزفر، وإسحاق، وآخرون من السلف، وهو أصحُّ الروايتين عن أحمد؛ قالوا: لأن من قال بالأطهار، يجعلها قرأين وبعض الثالث، وظاهر القرآن: أنها ثلاثة.
والقائل بالحيض يجعلها شرطًا، فيكون ثلاث حيضات كوامل، فيكون أقرب إلى موافقة القرآن، ولهذا الاعتراض صار ابن شهاب الزهريّ إلى أن الأقراء هي: الأطهار، قال: ولكن لا تنقضي العِدَّة إلا بثلاثة أطهار كاملة، ولا تنقضي إلا بطهرين وبعض الثالث، وهو مذهب تفرد به، بل القائلون بالأطهار اتفقوا على أنها تنقضي بقرأين وبعض الثالث، حتى لو طلقها، وقد بقى من الطهر لحظة يسيرة، حُسب ذلك قرءًا، ويكفيها طهران بعده.
وأجابوا عن الاعتراض بأن الشيئين وبعض الثالث، يطلق عليهما اسم الجمع في قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، ومعلوم أنها شهران وبعض الثالث، وفي قوله تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] المراد: في يوم وبعض الثاني.
واختلف القائلون بالأطهار، متى تنقضي عدتها؟
فالأصحُّ عند الشافعية: أنه بمجرد رؤية الدَّم بعد الطهر الثالث، وفي قول: لا تنقضي حتى يمضي يوم وليلة. والخلاف في مذهب مالك كهُوَ عند الشافعية.
واختلف القائلون بالحيض -أيضًا-، فقال أبو حنيفة وأصحابه: حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، أو يذهب وقت صلاة، وقال عمر، وعلي، وابن مسعود، والثوري ، وزفر، وإسحاق، وأبو عبيد: حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وقال الأوزاعي وآخرون: حتى تنقضي بنفس انقطاع الدم.
وعن أبي إسحاق رواية: أنه إذا انقطع الدم، انقطعت الرجعة، ولكن لا تحل للأزواج حتى تغتسل؛ احتياطًا وخروجًا من الخلاف، والله أعلم.
وقولُه: "فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِها"؛ يعني: أن الطلقة الواقعة في الحيض مُنقِصة لعدد الطلاق، محسوبةٌ منه.
وفي الحديث أحكام:
منها: تحريم الطلاق في الحيض.
ومنها: أنه إذا طلَّق فيه، وقع.
ومنها: الأمر بمراجعة المطلقة الحائض، واختلف فيه، فقال الشافعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وسائر الكوفيين، وأحمد، وفقهاء المحدثين، وآخرون: الأمر بها للاستحباب، وقال مالك وأصحابه: للوجوب، ويجبر الزوج على الرجعة إذا طلق في الحيض.
ومنها: تحريم الطلاق في الطُّهر الذي جامعها فيه.
ومنها: أنَّ الطلاق في غير زمن الحيض لا إِثْم فيه؛ وكذلك في الطهر الذي يجامعها فيه، لكنه مكروه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أَبْغَضُ الحَلَالِ إلى اللهِ تعالى الطَّلاق"(1) فيكون حديث ابن عمر هذا لبيان عدم التحريم، وهذا الحديث لبيان كراهة التنزيه.
ومنها: أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة، ولا وليِّها، ولا تجديد عقد.
ومنها: أن الأقراء في العِدَّة هي الأطهار، وتقدم اختلاف العلماء فيه وتقريره والاعتراض عليه والجواب عنه.
ومنها: الاعتداد بالطلقة الواقعة في زمن الحيض من عدد الطلاق، وهو مذهب الجمهور.
ومنها: الأمر بإمساك المرأة المراجَعة بسبب الطلاق في الحيض، بعده.
ومنها: أن الأمر المعلق على شرط عدم عند عدم الشرط؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أَذِن في الطلاق قبل مسيسها، وقيده به، وفي ذلك دليل على امتناعه في الطهر الذي مسَّها فيه؛ لأنه شرط في الإذن عدم المسيس لها.
ومنها: عدم الإقدام على شيء قبل مراجعة الشرع فيه.
ومنها: الغيظ لأجل المخالفةِ، وعدمِ المراجعة للكبار والمقتدى بهم، خصوصًا الأقرباء والأصحاب.
ومنها: التثبُّت في الأمور لأجل مراعاة مصالحها ودفع مفاسدها.
(1) تقدم تخريجه قريبًا.