الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ، وَمُحَيصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبرَ وَهِيَ يَومَئِذٍ صُلْحٌ فَتَفرَّقا، فَأتى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهلٍ، وَهُوَ يَتشحَّطُ في دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفنَهُ، ثُمَّ أتى المَدِينةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرحْمَنِ بنُ سَهْلٍ وَمُحَيصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتكلمُ، فَقَالَ:"كَبِّرْ كبِّرْ! "، وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَتَ، فَتكلمَا، فَقَالَ:"أتحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صاحِبكُمْ؟ " قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: "فَتبرِئكمْ يَهُودُ بخَمْسِينَ يَمينًا؟ "، فَقَالُوا: كَيْفَ نأخذُ بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كفارٍ؟ فَعَقَلَهُ النبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ (1).
وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنكمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ؟ " قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ، كَيْفَ نَحْلِفُ؟ قَالَ:"فَتبرئكمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! قَوْمٌ كفارٌ (2).
وَفي حَدِيثِ سَعِيدِ بنِ عُبيدٍ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ بِمِئةٍ مِنْ إبِلِ الصدقَةِ (3).
الكلام على أسماء هذا الحديث:
أما سهلُ بنُ أبي حَثْمَةَ؛ فتقدم ذكره في باب صلاة الخوف.
وأما عبد الله بن سهل؛ فهو أنصاريٌّ حارثيٌّ، أخو عبد الرحمن، وابن أخي حويصة ومحيصة.
(1) رواه البخاري (3002)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، ومسلم (1669)، (3/ 1294)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: القسامة، وهذا لفظ البخاري.
(2)
رواه مسلم (1669)، (3/ 1292)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: القسامة.
(3)
رواه البخاري (6502)، كتاب: الديات، باب: القسامة، ومسلم (1669)، (3/ 1294)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: القسامة.
قال النمري: هو المقتول بخيبر الذي وردت في قصته القسامة (1).
وأما مُحَيِّصةُ؛ فهو -بضم الميم وفتح الحاء المهملة، وبالياء المثناة تحت، المشددة المكسورة والمخففة ساكنة- لغتان مشهورتان، ذكرهما القاضي عياض -رحمه الله تعالى-، أشهرهما التشديد (2).
وحُوَيِّصَةُ؛ -بضم الحاء المهملة وفتح الواو، وفي الياء اللغتان؛ التشديد والتخفيف-.
وكنية محيصة: أبو سعد بنُ مسعود بن كعب بن عامر بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج، أنصاري حارثي، يعد في أهل المدينة. وكان إسلامه قبل الهجرة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل فدك، يدعوهم إلى الإِسلام. وشهد أحدًا والخندق وما بعدهما من المشاهد، وهو أخو حويصة بن مسعود، وكان حويصة أكبر منه، وكان محيصة أنجب وأفضل.
وكان سبب إسلام محيصة: ما ذكره ابن إسحاق في "المغازي" عن ثور بن زيد عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة كعب بن الأشرف اليهودي الذي كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشِعره وسعيه، ويحرض عليه العرب، وهو رجل من بني نبهان من طيئ، فلما قتل كعب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ ظفرتم به من رجالِ يهودَ، فاقتلوه"، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة -رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم-، فقتله. وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من محيصة، فلما قتله، جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله! قتلته! أما واللهِ لربَّ شحمٍ في بطنك من ماله. قال محيصة: فقلت له: أما والله لقد أمرني بقتله مَنْ لو أمرني بقتلك، لضربت عنقك. قال: اللهِ لو أمرك بقتلي لقتلتني؟! قلت: نعم، واللهِ لو أمرني بقتلك لقتلتُك. قال: والله إن دينًا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة.
(1) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 924)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 255)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 123).
(2)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 399).
وكان ذلك أولَ إسلامه. فقال محيصة:
يلومُ ابنُ أمي لو أُمِرْتُ بقتلِه
…
لَطَبَّقْتُ ذِفْراهُ بأبيضَ قاضِبِ
حسامٌ كلونِ الملحِ أُخْلِصَ صَقْلُهُ
…
متى ما أُصَوِّبْهُ فليسَ بكاذبِ
وما سَرَّني أَنِّي قتلتُك طائِعًا
…
وَأَن لنا ما بينَ بُصرى ومَارِبِ
وروى محيصة في كسب الحجام؛ روى عن ابن سعد بن محيصة، وابن أبيه حرام بن سعد بن محيصة، ومحمد بن سهل بن أبي حثمة، ومحمد بن زياد.
روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
وحويصة يكنى: أبا سعد -أيضًا-. وهو أخو محيصة لأبيه وأمه. وفي حقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل المقتول لأخيه عبد الرحمن لما أراد أن يتكلم: "كبِّرْ كبِّر"؛ لمكانه من أخيه محيصة.
شهد حويصة أُحدًا، والخندقَ، وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى عنه محمدُ بن سهل بن أبي خثمة، وحرام بن سعد بن محيصة (1).
وأما حماد بن زيد؛ فكنيته: أبو إسماعيل، واسم جده: درهم، ويقال
لحماد: الأزرق، وهو أزديٌّ، جهضميٌّ، بصريٌّ، مولى جرير بن حازم. سمع خلقًا من التابعين وغيرهم. وروى عنه خلائق من الأئمة والعلماء.
قال ابن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة.
(1) وانظر ترجمة محيصة في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 53)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 426)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 404)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1463)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 411)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 392)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 312)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 60).
* وانظر ترجمة أخيه حويصة في: "الثقات" لابن حبان (3/ 91)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (10/ 409)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 97)، و"تهذيب الأسماء واللغات، للنووي (1/ 173)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 143).
وفي حماد أنشد ابن المبارك -رحمة الله تعالى عليه-:
أَيُّها الطالبُ علمًا
…
ائتِ حَمَّادَ بْنَ زَيدِ
فَخذِ العلمَ بحلمٍ
…
ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْد
وَدَعِ البدعَةَ من
…
أَشْعار عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ
وقال عبيد الله بن الحسن: إنما هما الحمَّادان، فإذا طلبتم العلم، فاطلبوه من الحمَّادَيْن.
فقال ابن معين: ليس أحد أثبت من حماد بن زيد.
وقال أبو زرعة: هو أثبت من حماد بن سلمة بكثير، وأصح حديثًا وأتقن.
وقال يزيد بن زريع: هو أثبت من ابن سلمة، وكان ابن سلمة رجلًا صالحا.
وقال يحيى بن يحيى: ما رأيت أحدًا من الشيوخ أحفظَ من حماد بن زيد.
وقال ابن سعد: كان ثقة، ثبتا، حجة، كثير الحديث.
ولد حماد بن زيد سنة ثمان وتسعين، وتوفي في رمضان سنة تسع وتسعين ومئة، ابن إحدى وثمانين سنة، وصلى عليه إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي، وهو يومئذ والٍ على البصرة.
روى له البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند (1).
وأما سعيد بن عبيد؛ فكنيته: أبو الهذيل، طائيٌّ كوفيٌّ. روى عن بشير بن يسار، وعلي بن ربيعة الوالبي. وروى عنه: الثوري، وابن المبارك، ووكيع، ويحيى بن سعيد، وغيرهم.
وقال ابن حنبل وابن معين: ثقة.
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 286)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 25)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 176)، و"الثقات" لابن حبان (6/ 217)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 364)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 170)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 239)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (7/ 456)، و "تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 228)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 9).
وقال يحيى القطان: ليس به بأس.
وروى له البخاري، ومسلم، وغيرهما (1).
أما قوله: فذهبَ عبدُ الرحمن يتكلّم، فقال:"كَبِّرْ كَبِّرْ"؛ فاعلم أن عبد الرحمن هذا هو أخو عبد الله المقتول بخيبر، كما ذكرناه. وهو ابن سهل، كان له علم وفهم. ويقال: إنه شهد بدرًا، وهو الذي قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما جاءته جدتان أم أم، وأم أب، فأعطى السدس أم الأم دون أم الأب، فقال له عبد الرحمن بن سهل -رجل من الأنصار من بني حارثة، قد شهد بدرًا-: يا خليفة رسول الله! أعطيته التي لو ماتت له لم يرثها، وتركت التي لو ماتت ورثها! فجعله أبو بكر بينهما (2).
وروى عنه محمَّد بن كعب القرطبي عنه: أنه غزا، فمرت به روايا تحمل خمرًا، فشقها برمحه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نُدخل الخمر بيوتَنا وأسقيتَنا (3).
وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم له بقوله: "كَبِّرْ كَبِّرْ"؛ معناه: ليتكلمِ الأكبرُ، وأكده بالتكرير؟ تنبيها على شرف السنِّ.
فإن قيل: الحق في المطالبة بالدم لعبد الرحمن؟ فإن المقتول أخوه، ومحيصة وحويصة ابنا عم لا حقَّ لهما في المطالبة به مع وجوده، وقد أمر برد الكلام إليهما، فالجواب: أن كلام عبد الرحمن لم يكن حقيقة دعوى يترتب عليها الحكم، وإنما هو بيان وشرح للواقعة، والأكبرُ أفقهُ وأعلم بذلك، خصوصًا في مخاطبة الكبار.
(1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 497)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 46)، و"الثقات" لابن حبان (6/ 466)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 549)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 55).
(2)
رواه الإِمام مالك في "الموطأ"(2/ 513)، وسعيد بن منصور في "سننه"(1/ 73)، وعبد الرزاق في "المصنف"(19084)، عن القاسم بن محمَّد.
(3)
انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 836).
أو يقال: إن عبد الرحمن وكَل الأكبرَ المتكلِّم في الدعوى والمساعدة له؛ حيث أمر بالتفويض في المطالبة إلى الأكبر، ولذلك يُقال في عرض اليمين عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم:"أتحلفون وتستحقون قاتلَكُم أو صاحبكُم؟ "، مع أن المستحق الوارث للحق في القتيل عبد الرحمن دونهما.
والجواب: أن الخطاب وقع لهم، والمراد من يختص باليمين والاستحقاق، وذلك مغتفر؛ للعلم به. وإنما اغتفر؛ حيث إن الكلام وسماعه كان من الجميع ثلاثتهم في صورة القتل، وكيفية ما جرى فيه، وإن كانت حقيقته [الدعوى](1) واليمين، إنما يتصوران من الوارث أو وكيله فيما يجوز التوكيل فيه، والله أعلم.
ومعناه: ثبت حقكم على من حلفتم عليه.
قوله: "فتبرئكمْ يهودُ"؛ يهودُ مرفوع لا ينصرف؛ لأنه اسم للقبيلة والطائفة، ففيه التأنيث والعلمية.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يقسمُ خمسونَ منكم على رجلٍ منهم فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ؟ "؛ الرمَّة: بضم الراء وتشديد الميم المفتوحة؟ ومعناه: تسليم القاتل بجملته إلى ولي القتيل للقتل، وأصل الرمة: الحبل الذي يكون في عنق البعير؛ ليسلم به إلى من يقوده به، شُبه به القاتل في تسليمه للقتل، والله أعلم (2).
وهذا الحديث أصل في القَسامة وأحكامها، والقَسامة -بفتح القاف وتخفيف السين- مشتقة من القَسَم أو الأَقسام؛ وهي اليمين التي يحلف بها المدعي للدم عند اللَّوْثِ، وقيل: إنها اسم للأولياء عند أهل اللغة، وعند الفقهاء: اسم للأيمان. وقد نقل عن جماعة من أهل اللغة، وهو الصحيح.
ثم اعلم أن موضع جريان القسامة: أن يوجد قتيل لا يُعرف قاتله، ولا تقوم عليه بينة، ويدعي أهل القتيل قتلَه على واحد أو جماعة مع قرينة الحال، بما
(1) ما بين معكوفين سقطت من "ح".
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 267)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 149).
يشعر به صدق الولي. ويقال له: اللوث، فيحلف على ما يدعيه.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: إثبات القسامة، وهو أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم، وإن اختلفوا في كيفيَّة الأخذ به.
وأبطل القسامة جماعة، وقالوا: لا حكمَ لها، ولا عمل بها، منهم: سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، والحكم بن عتيبة، وقتادة، وأبو قِلابة، ومسلم بن خالد، وابن علية، والبخاري، وغيرهم.
وعن عمر بن عبد العزيز رِوَايَتَانِ كالمذهبين، والله أعلم.
ومنها: ما ذكرنا أن القسامة إنما تكون عند اللوث، وله صور:
إحداها: وجدانُ القتيلِ في محلة أو قرية، بينه وبين أهلها عداوة ظاهرة، ووصف بعضهم القرية هنا: أن تكون صغيرة، واشترط ألَّا يكون معهم ساكن غيرهم؛ لاحتمال القتل من غيرهم حينئذ.
الثانية: ثبوتُه من غير بينة على معاينة القتل، وهو قول مالك، والليث، والشافعي.
ومن اللوث: شهادةُ العدل وحدَه. وكذا قول جماعة ليسوا عدولًا.
الثالثة: لا يشترط في ثبوته قولُ المقتول في حياته: دمي عند فلان، وهو قتلني، أو ضربني، وإن لم يكن به أثر، وفعل بي هذا من إنفاذ مقاتلي، أو جرحني. ولا يشترط ذكر القتل عمدًا عند فقهاء الأمصار جميعهم، والعلماء كافة.
واشترط ذلك جميعَه: الليثُ، ومالك؛ وادعى مالك: أنه مما أجمع عليه الأئمة قديما وحديثا.
وردَ ذلك القاضي عياض، وقال: لم يقل بهذا أحد غيرهما، ولا روي إلا عنهما، ولم ير أحد غيرهما فيه قسامة (1).
الرابعة: لا يشترط وجود الدم ولا جراحة عند الشافعي وأصحابه. قالوا: لأن القتل قد يحصل بالخنق، وعصر الخصية، والقبض على مجرى النفس، فيقوم أثرها مقام الجراحة.
واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح فيه، واحتج مالك بقصة بني إسرائيل على عدم الاشتراط في قوله تعالى:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] قالوا: فأحيي الرجل، فأخبر بقاتله، فلو اشترط ذلك، لم يحتج إلى قوله: وإحيائه.
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن هذا شرعُ مَنْ قبلنا، وردَ شرعُنا بحكم غيره.
الثاني: أن ذلك أجراه الله تعالى آية لهم؛ لما ادَّارؤُوا في قتل النفس؛ للحجة عليهم، لا لبيان الحكم الشرعي.
وقال أبو حنيفة: إن لم يكن جراحة ولا دم، فلا قَسامة، وإن وجدت الجراحة، ثبتت القسامة، وإن وجد الدم دون الجراحة: فإن خرج من أنفه، فلا قسامة، وإن خرج من الأنف والأذن، ثبتت القسامة، هكذا حكي عنه.
الخامسة: إذا شهد عدلان بالجرح، فعاش بعده أياما، ثم مات قبل أن يفيق منه، لا يكون قسامة، بل يجب القصاص في ذلك عند الشافعي، وأبي حنيفة.
وقال مالك، والليث: هو لوث.
السادسة: إذا وجد المتهم عند المقتول، أو قريبًا منه، أو آتيًا من جهته، ومعه آلة القتل، وعليه أثره؛ من لطخ دم وغيره، وليس هناك سبع ولا غيره مما يمكن إحالة القتل عليه، أو تفرق جماعة عن قتيل، فهذا لَوْثٌ موجب للقسامة
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 144).
عند مالك، والشافعي. وكذا لو اقتتل طائفتان، فوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وعن مالك رواية: أنه لا قسامة، بل فيه دية على الطائفة الأخرى، إن كان من الطائفتين، وإن كان من غيرهما، فعلى الطائفتين ديته، فلو وجد الميت في زحمة الناس، قال الشافعي: تثبت فيه القسامة، وتجب بها الدية. وقال مالك: هو هدر. وقال الثوري، وإسحاق: تجب ديته في بيت المال. وروي مثله عن عمر وعلي رضي الله عنهما.
ولو وجد في محلة أقوم، أو قبيلتهم، أو مسجدهم، فقال مالك، والليث، والشافعي، وأحمد، وداود، وغيرهم: لا تثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتيل هدر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل، ويلقيه في محلة طائفة؛ لينسب إليهم.
قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه، لا يخالطهم غيرهم، فيكون كالقضية التي جرت بخيبر، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة لورثة القتيل؛ لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم. وعند أحمد نحو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة، والثوري، ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية، توجب القسامة، ولا تجب القسامة في شيء من الصور عندهم إلا هنا؛ لأنها عندهم هي الصورة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالقسامة. ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر.
قالوا: فإن وجد القتيل في مسجد، خلف أهل المحلة، وجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة.
وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة، وإن لم يكن عليه أثر، ونحوه عن داود، والله أعلم.
ومنها: اشتراط وجود الدم في إيجاب القسامة صريحًا، والجراحة ظاهرًا.
وقد ذكرنا الاختلاف فيه، وأن الشافعية لا يقولون بذلك، وأن غيرهم يقولون به؛
لوجود عبد الله بن سهل يتشحط في دمه قتيلًا، والحكم بالقسامة بسببه.
ومنها: فضيلة السن عند التساوي في الفضائل. وله نظائر؛ تقدم بها في الإمامة، وفي ولاية النكاح ندبًا، وغير ذلك.
ومنها: البداءة في القسامة بيمين المدعي، وهو مذهب أهل الحجاز، ونقل عن أبي حنيفة خلافه. وهو مخالف لما اقتضاه الحديث.
وقدم المدعي هنا باليمين خلافًا لسائر الخصومات؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "البينةُ على المدعي واليمينُ على مَنْ أنكَر"(1)؛ لما انضاف إلى دعواه من شهادة اللوث مع عظم قدر الدماء. وكل واحد من هذين المعنيين جزء علة لا علة مستقلة.
ومنها: أن الأيمان في القسامة المستحقة خمسون يمينًا.
والحكمة في تعددها: أن تصديق المدعي على خلاف الظاهر بالعدد؛ ولتعظيم شأن الدم، فلو كانت الدعوى في غير محل اللوث، وتوجهت اليمين على المدعى عليه، فهل تجب خمسين يمينا؟
فيه قولان للشافعي رحمه الله.
ومنها: أن المدعي في محل القسامة، إذا نكل، غلظت اليمين بالتعداد على المدعى عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فتبرئكم يهودُ بخمسينَ يمينًا؟ ".
وفي هذه المسألة طريقان للشافعي:
أحدهما: إجراء قولين؛ لأن نكوله يبطل اللوث، وكأنه لا لوث.
والطريق الثاني، وهو الأصح: القطع بالتعدد؛ للحديث؛ فإنه جعل أيمان المدعى عليهم كأيمان المدعين.
(1) رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 157)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 252)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد رواه البخاري (4277)، كتاب: التفسير، باب:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، ومسلم (1711)، كتاب: الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "
…
ولكن اليمين على المدعى عليه".
ومنها: صحة يمين الكافر والفاسق.
ومنها: أن القسامة يثبت بها القصاص؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أتحلفونَ وتَستحقُّون قاتلَكم أو صاحبكُم؟ ".
وفي رواية في "الصحيح": "دمَ صاحبكُم"(1) وهو قول الشافعي في القديم، وهو مذهب مالك وأصحابه، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وبه قال الزهري، وربيعة، وأبو الزناد.
وروي عن أبي الزبير، وعمر بن عبد العزيز، قال أبو الزناد: قبلنا بالقسامة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل، فما اختلف منهم اثنان (2).
والذي قال بهذا، جعل له شرطين:
أحدهما: ما يقتضي القصاص في الدعوى.
والثاني: المكافأة في القتل، وشبهوا القتل بها باليمين المردودة في استحقاق ما ادعى به.
وقال الشافعي في الجديد من قوليه، والكوفيون: لا يجب بها القصاص، وإنما تجب الدية.
وروي عن أبي بكر، وعمر، وابن عباس، ومعاوية رضي الله عنهم، وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، واستدل [لذلك] (3) من الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم: "إما أَنْ تَدُوا
(1) رواه البخاري (6769)، كتاب: الأحكام، باب: كتاب الحاكم إلى مسألة والقاضي إلى أمنائه، ومسلم (1669)، (3/ 1294)، كتاب: القسامة، باب: القسامة.
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 127).
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(12/ 235)، قلت: إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة، فضلًا عن ألف.
(3)
ما بين معكوفين ليست في "ح".
صاحِبكُم، وإمَّا أَنْ تُؤذِنُوا بِحَرْبٍ"؛ فإنه يدل على أن المستحق دية لا قود؛ ولأنه لم يتعرض للقصاص، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: "فبدفع بِرُمَّتِهِ" أقوى من قوله: "وتستحقون دمَ صاحبِكم"؛ لأن قولنا: "يدفع برمته" مستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل، أو لأن الواجب الدية، ويبعد استعمال هذا اللفظ فيها، وهو أظهر في استعماله في تسليم القاتل.
والاستدلال بقوله: "دمَ صاحِبكم" أظهرُ من الاستدلال بقوله: "وتستحقون قاتلَكم أو صاحبَكُم" احتمالًا ظاهرًا، لكن بعد التصريح بالدم، يحتاج إلى تأويل لفظه، بإضمار بدل دم صاحبكم، والإضمار على خلاف الأصل، ولو احتيج إلى الإضمار، لكان أقرب إلى اقتضاء حمله على إراقة الدم.
وأشار بعض المخالفين إلى احتمال أن يكون المراد بقوله: "دمَ صاحبِكم" هو القتيل، لا القاتل، ورد ذلك قولُه:"دمَ صاحبِكم أو قاتلَكُم".
ومنها: أن القسامة إنما تكون على واحد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم"، وبهذا قال مالك وأحمد، وقال أشهب وغيره: يحلف الأولياء على ما شاؤوا، ولا يقتلون إلا واحدًا، وقال الشافعي: إن ادعوا على جماعة، حلفوا عليهم، وتثبت عليهم الدية، على الصحيح عند الشافعي.
وعلى قول: يجب القصاص عليهم، وهو قول المغيرة بن عبد الرحمن من أصحاب مالك، فإنه لو قتل أكثر من واحد، لم يتعين أن يقسم على واحد منهم، قال: وإن حلفوا على واحد، استحقوا عليه وحده.
ومنها: أن لو تعدد المدعون في محل القسامة، حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"يقسمُ خمسون منكم على رجل منهم"؛ ومعناه: يقسم كل واحد من الخمسين القسمَ المشروع في ذلك، وهو خمسون يمينًا.
وقد نقل عن الشافعي -رحمه الله تعالى- في كيفية أيمانهم قولان:
أحدهما: ما ذكرنا.
والثاني: أن الجميع يحلفون خمسين يمينًا، وتوزع الأيمان عليهم، وإن وقع
كسر، تُمم؛ فلو كان الوارث اثنين مثلًا، حلف كل واحد خمسة وعشرين يمينًا، وإن اقتضى التوزيع كسرًا في صورة أخرى؛ كما إذا كانوا ثلاثة، كملنا الكسر، فيحلف كل واحد سبعة عشر يمينًا.
ثم الحالفون: هم ورثة الدم، فلا يحلف غيرهم من الأقارب، سواء كان الوارثون ذكورًا أو إناثًا، وسواء كان القتل عمدًا أو خطأ، وهذا هو مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، ووافق مالك فيما إذا كان القتل خطأ، أما إذا كان عمدًا، فقال: فيحلف الأقارب خمسين يمينًا، فلو كان المدعون أكثر من خمسين، لم يحلف منهم إلا خمسون، وهو ظاهر الحديث.
قال مالك: ولا يحلف النساء ولا الصبيان، ووافقه ربيعة، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وداود، وأهل الظاهر.
واحتج الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم: "أتحلفونَ خمسينَ يمينًا، فتستحقونَ صاحبكُم"؛ فجعل الحالف هو المستحق للدية أو القصاص، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئًا، فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية.
ومنها: أن القسامة إنما تجري في قتل الحر، فلو كان المقتول عبدًا، فهل تجري فيه القسامة؟
فيه قولان للشافعي: مأخذهما شرف الحرية أو الدماء، فمن نظر إلى شرف الحرية، لم يعده إلى العبد، ومن نظر إلى الاحتياط للدماء، عَدَّاه؛ حيث إنه يشمل الحر والعبد.
ومنها: أن القسامة تجري في قتل النفس الكاملة؛ لظاهر الحديث.
وهل تجري فيما دون النفس من الأطراف والجراحات؟
قال المالكية: لا، وعند الشافعية قولان، منشؤهما: أن وصف كونها نفسًا، له أثر أم لا؟ وكون الحكم بالقسامة على خلاف القياس يقوي الاقتصار على مورده.