الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحيح ما قاله الشافعي وموافقوه؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم حصر عدم القطع إلا في ربع دينار. وحديث المجن الذي قيمته أو ثمنه ثلاثة دراهم محمول على ربع دينار كما ذكرنا. وهي قضيّة عين لا عموم لها، فلا يجوز ترك صريح لفظه صلى الله عليه وسلم في تحديد النصاب لهذه الرواية المحتملة، بل يجب حملها على موافقة لفظه صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى كرم الله تعالى على المكلفين من عباده، ونوعهم؛ حيث جعل في قطع اليد إذا لم يقتص منها نصف الدية؛ تعظيمًا لقدرها، وجعل للسارق قدر ربع دينار، أو ربع دينار بقطع يده؛ تحقيرًا لها بسبب المعصية المتعلقة بحق الله تعالى في المخالفة وحق المسلم في ماله، والله أعلم.
والروايات المروية في التقديرات الزائدة على ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار، كلها ضعيفة لا يعمل بها، لو انفردت، كيف وهي مخالفة لصريح الأحاديث الصحيحة، مع أنه يمكن تأويلها عليها؛ بأن ما زاد على التقديرين المذكورين، كان قيمة لهما، والله أعلم.
الحديث الثاني
عَنْ عَائشِةَ رضي الله عنها: أنَّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تُقْطَعُ اليَدُ فِي ربع دِينَارٍ فَصَاعِدًا"(1).
أما ما تقطع فيه اليدُ من المال المسروق، فقد ذكرناه في الحديث قبله، لكن يشترط أن تكون السرقة من حِرْز، عند جميع العلماء، إلا داود الظاهري، فلم يشترطه.
(1) رواه البخاري (6407)، كتاب: الحدود، باب: قوله الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ومسلم (1684)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها.
والمعتبر في الحرز الذي يقطع بالسرقة منه: ما عدَّه أهلُ العرف حِرزًا لذلك الشيء.
ويشترط للقطع -أيضًا-، ألَّا يكون للسارق شبهة في المسروق؛ فإن كانت شبهة، لم يقطع.
ويشترط -أيضًا- مطالبة المسروق منه بالمال.
واعلم أن هذا الحديث هو اعتماد الشافعي في مقدار النصاب، وقد ثبت ذلك من فعله؛ لأنه لا يلزم من قطع السارق في مقدار معين وقع على سبيل الاتفاق ألَّا يقطع فيما دونه، بخلاف القول، فإنه دال على اعتبار معين في القطع، وذلك يدل على عدم اعتبار ما زاد عليه في إباحة القطع.
ولو اعتبر في الزيادة عليه، لاعتبر فيما دونه، و -أيضًا- فإن دلالة الفعل هي باب الظن في المقصود، فأشبهت المتقومات، والله أعلم.
وهذا الحديث قوي في الدلالة على أصحاب أبي حنيفة؛ فإنه صريح بمقتضاه في القطع في هذا المقدار الذي لا يقولون بجواز القطع به.
وأما دلالته على الظاهرية ومن قال بقولهم؛ في أنه يقطع في كل قليل وكثير، فليست من حيث النطق، بل من حيث المفهوم، وهو داخل في مفهوم العدد، ومرتبته أقوى من مفهوم اللقب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد"؛ المراد بها: القطع من الرسغ؛ وهو المفصل بين
الكف والذراع، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وجماهير العلماء، وقال بعض السلف: تقطع اليد من المرفق، وقال بعضهم: من المنكب؛ والمراد به اليد اليمنى، وكذلك هو في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]؛ أي: أيمانهما، وهو موجود في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه.
* * *