الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من ضرب في شدقيه، أو فك في لحييه؛ ليرسلها، فلو أمكن تخليصها بأيسر ما يقدر عليه، فينبغي أنه يضمن.
وخالف مالك في ذلك، وقال: يجب الضمان في السن مطلقا، والحديث صريح لمذهب الشافعي ومن قال بقوله.
والتقييد بعدم الإمكان لغير هذا الطريق، مأخوذ من القواعد الكلية.
فلو لم يمكن التخليص إلا بضرب عضو آخر، كبعج البطن، وعصر الأنثيين، فقد قيل: له ذلك، وقيل: ليس له قصد غير الفم.
وإذا كان القياس وجوب الضمان، فقد يقال: إن النص ورد في صورة التلف بالنزع من اليد، فلا يقيس عليه غيره، لكن إذا دلت القواعد على اعتبار الإمكان في الضمان، وعدم الإمكان في غير الضمان، وفرضنا أنه لم يكن الدفع إلا بالقصد إلى غير الفم، قوي بعد هذه القاعدة، أن يسوى بين الفم وغيره.
وفيه دليل على: الاختصام إلى الحكام عند وقوع الحوادث.
وفيه: تشبيه فعل الآدمي بفعل الحيوان الذي لا يعقل؛ للتنفير عن مثل فعله.
وفيه: أن المتعدي بالجناية، إذا ترتب عليه جناية بسبب جنايته توجب ضمانًا بمجردها: أنه لا يجب له ضمان تلك الجناية بدية ولا قيمة.
* * *
الحديث التاسع
عَنْ الحَسَنِ بْنِ أَبِي الحَسَنِ البَصْرِيّ قَالَ: حَدَّثنَا جُنْدُبٌ في هَذَا المَسْجِدِ، وَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَديثًا، وما يُخْشَى أَنْ يكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُل بِهِ جُرْحٌ، فَجَرحَ، وَأَحَدَّ سِكِّينًا، فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللهُ عز وجل: عَبْدِي بَادَرَنِي بنفْسِهِ، فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنةَ"(1).
(1) رواه البخاري (3276)، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم (113)، =
أما الحسن: فكنيته: أبو سعيد بن أبي الحسن يسار البصري -بفتح الياء وكسرها-، نسبة إلى البصرة البلدة المعروفة، -بفتح الباء، وكسرها، وضمها- الأنصاريُّ، مولاهم، مولى زيد بن ثابت، وقيل: غيره.
ويقال: إنه من سبي ميسان، وقع إلى المدينة، فاشترته الرُّبيع بنتُ النضر، عمةُ أنس بن مالك، فأعتقته، ويقال غيره.
وهو تابعي من سادات المسلمين وأكابر التابعين، ومشاهير العلماء والزهاد والمذكرين ذوي الحكم والفصاحة والآراء السديدة والملاحة.
ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ورأى طلحةَ بنَ عبيد الله وعائشةَ أم المؤمنين، ولم يصح له سماع منهما، وسمع خلقا من الصحابة والتابعين.
قال هشام بن حسان: أدرك الحسن ثلاثين ومئة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصح له سماع من بعضهم إلا القليل، بل رؤية، ومرسلاته صحيحة.
قال أبو زرعة: كل شيء قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدت له أصلًا ثابتا، ما كان ما خلا أربعة أحاديث.
وقال ابن أبي حاتم: ولا يصح له السماع من جندب.
وقد قال في هذا الحديث الثابت: حدثنا جندب في هذا المسجد، وهو صريح في السماع، فهو أولى من قول ابن أبي حاتم، قاله المصنف في "الكمال في أسماء الرجال"، والله أعلم.
قال أيوب -يعني: السختياني-: كان الرجل يجلس إلى الحسن ثلاث سنين، فلا يسأله عن شيء؛ هيبة له.
وقال أبو قتادة العدوي: ما رأيت رجلًا أشبه رأيًا بعمر بن الخطاب من الحسن بن أبي الحسن.
= كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وهذا لفظ البخاري.
وتوفي سنة عشر ومئة، وتوفي بعده ابن سيرين بمئة يوم.
وروى له البخاري ومسلم، وأصحاب السنن (1).
وأما جندب؛ فهو -بضم الدال وفتحها- ابنُ عبدِ الله بنِ سفيان البجليُّ العَلَقِيُّ -بفتح العين واللام-، وكنيته: أبو عبد الله، وكان بالكوفة، ثم صار إلى البصرة، وعلقة: حيٌّ من بَجيلة، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وينسب تارة إلى أبيه، وتارة إلى جده.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وأربعون حديثًا، اتفقا منها على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة.
وروى عنه جماعة من التابعين، مات سنة أربع وستين، وروى له أصحاب السنن والمساند (2).
وقوله: "فَحَزَّ بِها يَدَهُ": فقطعها، أو بعضها؛ وتقدمت لغات السكين، وأنه يجوز فيها التذكير والتأنيث، ويقال في لغته: سكينة -بالهاء-، ويقال فيها: الدية -بضم الميم وفتحها، وكسرها-، ست لغات.
وقوله: "فَما رَقَأَ الدَّمُ حتى ماتَ": رقأ، -بفتح الراء والقاف وبالهمز-: ارتفع وانقطع.
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 156)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 286)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 40)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 122)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 131)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 233)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 165)، و"تهذيب الكمال" للمزي (6/ 95)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 563)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 71)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (2/ 231).
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 35)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 221)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 510)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 56)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 256)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 566)، و "تهذيب الكمال" للمزي (5/ 137)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 174)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 509)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 101).
وقوله: "بادَرَني عبدي بنفسه": فيه إشكال أصولي، يتعلق بالآجال، ولا شك أن أجل كل شيء حينه ووقته، يقال: بلغ أجله؛ أي: تمَّ أمدُه، وجاء حينُهُ، وليس كل وقت أجلًا، ولا يموت أحد بأي سبب كان إلا بأجله، وقد علم الله أنه يموت بالسبب المذكور، وأما علمه، فلا يتغير.
فعلى هذا: يبقى قوله: "بادرني عبدي بنفسه" محتاجًا إلى التأويل؛ فإنه قد يوهم أن الأجل كان متأخرًا عن ذلك الوقت، فقدم عليه.
واعلم أن الكلام في هذا المحل على ضربين:
أحدهما: ما يتعلق بعلم الله تعالى، وعلمُ الله لا يتصور أن يقع الأمر فيه على خلاف ما وقع به علمه سبحانه وتعالى.
والثاني: ما يقع بحكمه الطلبي مما وقع به علمه سبحانه وتعالى، وهو ألَّا يكون وقوعه بسبب فعلي من العبد على خلاف حكمه الطلبي، فعلى هذا يتأول قوله:"بادرني عبدي بنفسه"، فيكون لله عز وجل فيه علمان؛ علم سابق، وعلم حادث، فالمبادرة وقعت لعلمه الحادث، لا لعلمه السابق، وأن كل واحد منهما معلوم عنده سبحانه وتعالى والله أعلم.
وقوله: "حرمتُ عليه الجنةَ": قد يستشكل ذلك؛ من حيث إن تحريم دخول الجنة يقتضي تحريم الأبد، فيتعلق به من يرى وعيد الأبد.
وجوابه: أنه يُؤوَّل عند غيرهم: على تحريم الجنة بزمان مخصوص، كما يقال: لا يدخلها مع السابقين، أو بحالة مخصوصة، بأن يكون فعل ذلك مستحلا له، فيكفر به، فيكون مخلدًا بكفره، لا بقتله نفسه.
وفي الحديث أحكام:
منها: تحريم قتل النفس، سواء كانت نفس الإنسان أو غيره؛ فإن نفس الإنسان ليست ملكه؛ فيتصرفَ فيها على حسب ما يراه، بل على حسب الأمر والنهي الشرعيين.
ومنها: بيان صفة التحديث بصيغته ومكانه، وحال المحدث في ضبطه وعدم
نسيانه، والمحدث عنه؛ فإن الحسن البصري ذكر الرواية بلفظ:"حدثنا"، و"في مسجد البصرة"، وعدم نسيانه لما رواه، وعدم كذب المحدث عنه.
ومنها: التحديث عن الأمم الماضية؛ كاليهود والنصارى وغيرهما؛ للاعتبار وتقرير الأحكام.
ومنها: الصبر على البلاء من المؤلمات والجراحات، وعدم الجزع عليها، بل من ابتلي بشيء منها، يلزمه الصبر والرضا، وعدم الجزع عليها، وسؤال الله تعالى العافية، والحمد له في البأساء والضراء، والشدة والرخاء، فسبحان من لا يُحمد على المكروه سواه، ولا يُعرف في جميع الحالات إلا هو.
ومنها: تحريم الأسباب المؤدية إلى إزهاق روح الإنسان.
ومنها: رحمة الله تعالى لخلقه؛ حيث حرم قتل النفوس وأسبابه.
ومنها: الوقوف عند حدوده؛ بحيث لا يقدم أمرًا قبل وقته المحدود في علمه، بتعاطي نفسه وجزعها، والله أعلم.
* * *