الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمد لله جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأرسل إلينا أفضل رسله، وشرع لنا أكمل شرائع دينه عقيدةً ومنهاجَ حياةٍ بما أودع فيها من حكم وأسرار تضمن للبشرية سعادتها وفلاحها، وبما أقامها عليه من أسس وقواعد ومبادئ تكفل العدل والخير والمساواة.
ولقد شمل الفقه الإسلامي كل نواحي الحياة الفردية والجماعية من شؤون اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها إبان عز الدولة الإسلامية، حيث قام الفقهاء المجتهدون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم بدراسة كل ما يعترض حياة الناس من مسائل وقضايا، على ضوء أصول الشريعة وقواعدها، وبينوا أحكامها، وتم تدوين ذلك والعمل به، بل إن بعض الفقهاء قد تناول بحث بعض القضايا التي لم تقع بعدُ، وإنما بناء على افتراضات، وقد عده بعض الناس ترفًا فقهيًا. وذلك يرجع إلى أنهم قد قاموا ببيان الأحكام في النوازل والوقائع في عصرهم، وتجاوزوها إلى غيرها، وقد تم الاستفادة منها في العصور التالية لعصرهم عندما ضعفت الدولة الإسلامية وشمل الضعف جميع الأمور بما في ذلك جوانب الفقه.
إن طلب العلم الشرعي من أشرف المطالب وأسمى الغايات، والمشتغل به مع إخلاص النية في أعلى درجات العبادة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يخرج يطلب علمًا إلا وضعت له الملائكة أجنحتها، وسُلِكَ به طريقٌ إلى الجنة، وإنه ليستغفر للعالم من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا
ولا درهمًا، ولكنهم ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (1).
والفقه الإسلامي من أهم ميادين العلوم الشرعية، وقد جاءت الأدلة متضافرة في الحث على التفقه في دين الله ومعرفة أحكام الشريعة، قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهْهُ في الدين"(3).
وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قليل العلم خير من كثير العبادة"(4).
وجاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير العبادة الفقه"(5).
وإن الفقه ثمرة العلوم كلها، قال ابن الجوزي (6): "أعظمُ دليل على فضيلة الشيء النظرُ إلى ثمرته، ومن تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم، فإن أرباب المذاهب فاقوا بالفقه الخلائق أبدًا، وإن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه
(1) أورده الحافظ المنذري وقال: رواه أبو داود والترمذيُّ وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقيُّ، وإنما يروى عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عنه. قال البخاري: وهذا أصح. جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1/ 34).
(2)
سورة التوبة: 122.
(3)
رواه البخاري، انظر الصحيح مع الفتح (1/ 164)، ومسلمٌ انظر محمد حسن (2/ 718).
(4)
رواه الطبراني في الكبير وذكره الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب. قال البيهقي: ورُوِّيناه صحيحا من قول مطرِّف بن عبد الله الشخير.
(5)
رواه البخاري في الأدب عن محجن بن الأدرع، وذكره الإمام أحمد في مسنده. جامع بيان العلم وفضله (1/ 21).
(6)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 155).
بالقرآن أو الحديث أو باللغة" ثم قال: "على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبيًّا عن باقي العلوم، فإنه لا يكون فقيهًا، بل يأخذ من كل علم بحظ، ثم يتوفر على الفقه؛ فإنه عز الدنيا والآخرة".
وانطلاقا من هذه المكانة للفقه حرص العلماء على دراسة الفقه وتدوين فروعه، ووضعوا قواعد وضوابط تجمع فروعه المتناثرة مما سهل دراسة هذا الفن وضبط فروعه، والفقه كغيره من العلوم ينمو باستعماله ويضمر بإهماله، فقد مرت به أطوار نما فيها وترعرع وتناول كل مناحي الحياة، ثم عَدَتْ عليه العوادي من المتآمرين على شرع الله فتوقف ذلك النمو فترات، وكاد أن يقف في أخرى.
والفقه الإسلامي تبع لشريعة الله التي أُبعدت عمدًا عن تنظيم حياة الناس وحل مشاكلهم، واستبدلت بنظم وطرائق جاءت من الأعداء وقد لبست أثوابًا مختلفة وتشكلت بأنماط متباينة حسب مصالحهم، وهذا الإقصاء عن مناحي الحياة أَثَّر كثيرًا على نمو الفقه وإبداع الفقهاء، وعلى الرغم من الضعف الذي تعيشه الأمة في مناحي الحياة إلا أنه توجد مؤشرات ومبشرات هنا وهناك من حيث تنامي البحوث والدراسات للوقائع والنوازل (1) والحوادث التي تنزل بالأمة الإسلامية، وتطبيق الأصول والقواعد الشرعية عليها، وبيان الحكم الشرعي فيها، واستبعاد ما يخالف الشريعة الإسلامية وإيجاد البدائل لما يتعارض منها مع ذلك، سواء كان ذلك من قبل المجامع الفقهية أو الجهود المتمثلة في الرسائل والبحوث العلمية في الجامعات ومراكز البحوث.
إن الفقه الإسلامي ثروة فكرية هائلة وتراث ضخم لم يستفد منه الكثيرون، وإن كل طالب علم لديه القدرة على توسيع دائرة الاستفادة من الفقه الإسلامي
(1) مما أُلف في ذلك: الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن عبد الله بن حميد، فقه النوازل، بكر أبو زيد، وغيرها.