الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظاء والميم وما يثلثهما
•
(ظمأ):
{وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 119]
"ظَمِئَ يظمأ: عَطِشَ. وأُظمِئ الفَرَس وظُمِّئَ - ض للمفعول فيهما: ضَمُر. ووجه ظمآن: قليل اللحم/ أُلزِقَتْ جلدته بعظمه وقل ماؤه وهو خلاف الريان. وعَيْن ظمْأى: رقيقة الجَفْن. وساقٌ ظمْأى وظَمْياء: مُعْتَرَقَة اللحم/ قليلته. وإنّ فُصُوصَه لظِماء أي الفَرَس: إذا لم يكن فيها رَهَل. والظمَأ: ذُبول الشفة/ قلة لحَمها ودمها وقلة لحم اللثة ودمها ".
° المعنى المحوري
ذهاب الرطوبة والندى من باطن الشيء واضطمامه على هذا الجفاف (1). كما هو واضح في ما سبق {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ} [التوبة: 120]{يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39]. ومنه "ريح ظَمْأى: حارّة ليس فيها نَدًى ".
الظاء والنون وما يثلثهما
•
(ظنن):
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]
"البئر الظَنون: القليلة الماء. مَظِنَّةُ الشيء: موضعه ومألفه الذي يُظن كونه
(1)(صوتيًّا): الظاء تعبر عن كثافة ونفاذ، والميم تعبر عن تضام والتئام ظاهر، والفصل منهما معقوبًا بهمزة يعبر عن التئام الجِرم على فراغ باطنه من الرخاوة والندى.
فيه، المَظِنّة والمِظَنة -بفتح الميم وكسر الظاء وبالعكس: بيت يظن فيه الشيء. المظانّ جمع مَظِنّة بكسر الظاء، وهي موضع الشيء ومَعْدِنُه مَفْعِلةٌ من الظن بمعنى العلم " (1).
° المعنى المحوري
توقع وجود شي مهم (في باطنٍ) لأمارة قوية على
(1) هذا التركيب فيه تفسيرات للبئر أو المشرب الظنون تصرّح أو يؤخذ منها أن البئر أو المشرب الظنون يحتمل أن لا يكون فيها ماء أصلًا منها "مَشْرَبٌ ظنون: لا يُدْرَي أبه ماء أم لا. الظَنون وهي البئر التي لا يُدْرَي أفيها ماء أم لا "وهذا تفسير غير دقيق. فإن الشاهد الذي أُورد للبئر الظنون بالمعنى الذي ذُكِر لا يعطي ذلك وهو قول الأعشى:
ما جُعِل الجدُّ الظَنُون الذي
…
جُنِّبَ صوب اللَجِبِ الماطرِ
مِثلَ الفُراتِيّ إذا ما طما
…
يَقْذفُ بالبُوصِيّ والماهر
(الجُدُّ -بالضم: البئر التي تكون في موضع كثير الكلأ. والجُدّ الماءُ القليل، وقيل هو الماء يكون في طرَف الفلاة. وقال ثعلب هو الماء القديم. الجُدْ جُد -بالضم: البئر الكثير الماء. [ل جدد]. الصَوْب: المطر. اللَجب: الراعد) فخلاص بيتي الأعشى أن البئر التي لا يخرج منها إلا ماء قليل لا تقاس بالنهر الفراتي أي الشبيه بالفرات -إذا طما فكان يقذف بالملاحين. وواضح أنه لا يعني البئر المعدومة الماء بدليل تفسيرات الجُدّ، فإن التي تكون في موضع كثير الكلأ لابد أن تكون كثيرة الماء، لنداوة باطنها، ولكثرة الراعية المحتاجة للشرب، وأيضًا فإنه جاء في الأثر "فنزل على ثَمَد بوادي الحديبية ظَنُون الماء. "الثَمَدُ: الماء القليل الذي لا مادة له/ الماء القليل الذي يبقى في الجَلَد " (ل ظنن، جدد) ويستحيل أن يكون معنى الظنون الذي لا يُدْرَى أفيه ماء أم لا. إذ كيف ينزل الجيش في موضع هذا شأنُ بئره) فالخلاصة أن تفسير الظنون بالذي لا يدري أفيه ماء أم لا تسامح. والصواب أن البئر الظنون هي التي يخرج منها ماء قليل.
ذلك (1). كالماء الذي في البئر الموصوفة فهو في باطنها، ولا يخرج إلا قليلًا قليلًا، وكالمَظِنّة لوجود الشيء أي موضعه ومعدنه الذي يوجد فيه عادة. (وينبغي أن يُسْتَحْضَر أن صَبَّ اللغويين وصف القلة على ماء البئر هو استنباط من كون الخارج منها قليلًا. ولكن هذا لا يقطع بكون كل ما في باطنها قليلًا، فقد يكون كثيرًا لكن هناك ما يحول دون اندفاعه منها. فالماء القليل الذي يخرج من البئر الظنون هو مجرد (أَمَارة على وجوده فيها). ومن هذا الأصل استعملت (ظن) في المعنى المشهور. وأَرْجَح عبارات اللغويين عنه هي عبارة الراغب. فعبارة المناوي: "الظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض "(2) وعبارة المحكم لابن سيده "الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر "وعبارة الراغب "الظن: اسم لما يحصل من أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضَعُفَت لم تجاوز حد الوهم "اهـ. المراد. والذي أقوله أن الظن اعتقاد قلبي (قائم على أمارات أو بحث ونظر) لكنه قد يتخلف (وهذا قريب من عبارة الراغب) - واحتمال التخلف ناشئ عن أنه يؤخذ من أمارات أو بحث، وهما عرضة للغلط. ويشهد لما أقوله (أ) بيت عميرة بن طارق [طب في تفسير البقرة 46].
بأن تغتزوا قومي وأقعدَ فيكمو
…
وأجعلَ مني الظنَّ غيبًا مُرَجمًا
فهو يرفض أن يَعُدّ ما ظنه (اعتقده) من أمارات دالة على أنهم يغزون قومه
(1)(صوتيًّا): الظاء تعبر عن كثافة وغلظ ونفاذ والنون تعبر عن امتداد لطيف في الباطن والفصل منهما يعبر عن نفاذ شيء مهم (أو وجوده) في الباطن كما في البئر الظنون.
(2)
التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي تحـ د. الداية. ص 493. وكلمة (احتمال) مكتوبة (استعمال) وهو تحريف.
= رَجْما بالغيب. فالظن عنده اعتقاد أخذه من أمارات كوّنته ورسّخته، فليس بوسعه أن يتجاهله ويظل مقيمًا بين الذين يغزون قومه.
(ب) بيت دريد الصمة [ل ظن]:
فقلت لهم ظُنُّوا بألفي مدجج
…
سَرَاتُهم في الفارِسيّ المُسَرَّد
فهو يقول لهم اعتقدوا ذلك وانتظروه.
ج) ثم بيت أوس بن حجر (البيضاوي عند تفسير البقرة 46).
فأرسلته مستيقِنَ الظنّ أنه
…
مخالطُ ما بين الشراسيف جائفُ
فهذا يتحدث عن سهم أو نحوه، وأنه أطلقه مستيقنًا أنه سيخالط ضلوع عدوّه وجوفه. والشاهد أنه جعل الظن مرحلة من الاعتقاد مغايرة لليقين، لكنها قد تبلغه -كما يقضي سياق البيت.
ثم أقول إن طبيعة هذا الاعتقاد -من حيث كونه حكمًا في النفس يقوم على أمارات أو بحث ونظر = تسمح بالتفاوت في درجة تركيزه. ومن هنا يتفق المستوى الأعلى منه مع مستوى علم اليقين الذي يقوم هو أيضًا على النظر أي البحث والبراهين العقلية. وعبّر الجوهريّ عن هذا بقوله: "وربما عبّروا بالظن عن اليقين، وباليقين عن الظن "وشاهد الأخير قول أبي سدرة الأسدي (ويقال: الهجيمي)(1).
نحسَّبَ هوّاسٌ وأيقن أنني
…
بها مُفْتَدٍ من واحد لا أغامره
(1) أ- عبارة الجوهري في [ل يقن] على وجهها الصحيح المذكور، وهي في الصحاح بدخول الباء على اليقين في العبارتين. سهوًا. ب: هوّاس اسم الأسد، لأنه يَهُوس الفريسة أي يدقها.
(يقول إن هَوّاسا (الأسد) ظن أني أترك له ناقتي ليأكلها فداء لنفسي. وقد عبّر عن ظن الأسد بقوله (أيقن). بعد قوله تحسّبَ - بيانا لها.
ومما جاء في القرآن الكريم من الظن بمعناه المشهور وهو الاعتقاد المبني على أمارات قوية {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 2]{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس: 24]، {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22]، {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] رجَّح أن اللَّه لن يضيق عليه الأمر في هَجْره دائرة دعوته، لأن اللَّه تعالى يعلم كم عانى منهم وصابَرَهم، {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح: 12]، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5]، {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] إلخ. كل ذلك بمعنى الاعتقاد الذي تخلّف أي تبين -بعدُ- أنه غير صحيح. وهناك ظن بمعنى الاعتقاد الذي تبين -بعد- أنه صحيح كما في قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} [يوسف: 42]. فقد نجا، وربما أيضًا {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24]. وهناك ما هو اعتقاد راجح لكنه أقرب إلى التعادل -مثل ما في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 230]. وعدم التحقق لا يعني ضرورة أنه كان توهمًا، إذ يمكن أن تكون الأمارات حقيقية وقوية، لكن يقع التخلف لأمور أخرى. أكاد أقول إن كل ما في القرآن الكريم هو من قبيل هذا الاعتقاد، باستثناء ما جاء منه في سياق الإزراء على الظن، فهذا يكون من الظنّ الذي يتخلف.
يتمثل إشكال هذا التركيب في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وقوله تعالى على لسان المؤمن الذي أوتى كتابه بيمينه يوم القيامة {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] حيث إن المطلوب في الإيمان أن يكون الاعتقادُ في لقاء اللَّه عز وجل (= البعث والحساب)، وكذا الإيمان بتحقق وعِد اللَّه بنصر المؤمنين وإن كانوا قلة - أن يكون الاعتقاد بهذين وسائر ما هو من باب العقيدة التي يتطلبها قبول الإيمان = أن يكون عقيدة مستيقنة -لا ظنًّا (حسب الانطباع الخاطى أن الظن شك).
وهنا بدأت الاجتهادات. وأشهرها وأخصرها أيضًا أن (ظن) من الألفاظ التي يستعمل الواحد منها لمعنيين متضادين: فهي تستعمل بمعنى اليقين وبمعنى الشك حسب ما يقضي السياق. وأنا لا أسلم بأن في اللغة ألفاظًا يستعمل الواحد منها للمعنى وضده، لأن هذا خلاف الأصل، فاللغة وضعت للتوضيح والتحديد لا للإلباس، وما أوردوه من ألفاظ منسوبة لهذا النوع وشواهدها كلها لها مَشْرَع آخر.
فإذا تجاوزنا هذا الاتجاه وجدنا (أ) التابعي مجاهد بن جبر (104 هـ) يقول "كل ظن في القرآن فهو يقين ". وفي رواية فهو "علم ". وأقول أنا إن هذا التعميم مردود. تشهد لرده بعض الآيات التي ذكرناها، ويردّه نصًا قوله تعالى حكاية عن كلام للكفار، لكنه يعبر عن الشائع العامّ أن الظن يخالف اليقين {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] فنفوا أن يفسَّر ظنهم باليقين. وقوله تعالى ردًّا على الذين ادعوا أنهم قتلوا المسيح {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ
وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]. (فهم قطعا لم يقتلوه، ولم يبحثوا عن اليقين في أمره، بل اتبعوا ظنهم، لأنه يوافق هواهم أن يُقْتَل). وقد قدّمنا قولة مجاهد هنا لنفرغ لغيره.
ب) وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في آية البقرة 46 {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} : "لأنهم لم يعاينوا، فكان ظنهم يقينًا، وليس ظنًّا في شك "، وقرأ {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] [طب شاكر 2/ 19]. وقد تبنى هذه المقولة [طب شاكر 16/ 309] في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110]، حيث قال:". . مع أن الظن إنا استعمله العرب في موضع العلم في ما كان من عِلْم أُدْرِك من جهة الخبر أو من غير وَجْه المشاهدة والمعاينة. فأما ما كان من عِلْم أُدْرِك من وجه المشاهدة والمعاينة فإنها لا تستعمل فيه الظن. لا تكاد تقول: "أظنني حيًّا، وأظنني إنسانًا "بمعنى: أَعلَمُني إنسانًا، وأَعلَمُني حيًّا ". كما تبناها ابن عطية في المحرر الوجيز [قطر 1/ 278] وكذلك [قر 15/ 179] (وفي النص هنا لفظ [إلا] مقحم)، وأبو حيان [بحر 6/ 130] (وفي الكلام هنا خطآن مطبعيان)، كما تبناها ابن سيده. حيث قال في استعمال (ظن) لليقين: "إنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبُّر، فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم " [ل]. والحكم الذي استولده الطبري من عبارة ابن زيد، واتبعه الأئمة وهو أن "يقين العيان لا يعبَّر عنه إلا بالعلم "هو حكم يحتاج شيئًا من التحرير، فقد يكون الموقف يقين عيان، ولكن هناك ما يدعو إلى التعبير عنه بالظن، كأن يكون يقينًا مكروهًا فيُخَفَّف على النْفس باستعمال الظن تعلُّقًا بنسبة من الأمل حتى لو كانت غير حقيقية. كما في {وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]. وقوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171]، {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22]، {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة: 28] فالعيان فيهن واضح، ولكن المُعَرَّض لهلاك محقَّق يظل عنده نسبة من الأمل لآخر لحظة، مما يسوّغ استعمال الظن بدلًا من العلم.
أما صدر عبارة الطبري، وهو أن ما لم يُعايَن (لا يمكن أن) يُستعمل فيه العلم بمعناه الحقيقيّ التام اليقينية فإننا نسلّمه؛ إذ لا ينكر أحد أن ما يكون مصدره الخبر أو النظر والاستدلال فإن اليقين به لا يبلغ درجة العِيان والمباشرة، لكنه قد يُعَدُّ من درجات اليقين. وهذا معنى ما تبناه الطبري عن ابن زيد، وهو الذي تجرى عليه الأمور في الحياة، إذ يُبْنَى عُظْم ما فيها على الأخبار الموثوق بها والاستدلالات وما إليها. فهذا المستوى من اليقين مقبول ومعترف به عند بني الإنسان. وسيأتي ما يؤيد ذلك.
وبالعود إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] وأختيها نقول إن الظن فيهن يفسَّر بالاعتقاد الذي هو الدرجة العليا من الظن، وهي درجة يقين دون درجة العِيان. حسب ما أسلفت، وحسب ما يأتي. ويؤيد هذا الذي أقول ما سبق به الإمامُ البيضاويّ حيث قال في هذه الآية {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]: أي يتوقعون لقاء اللَّه تعالى ونَيْلَ ما عنده، أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى اللَّه فيجازيهم. ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود (يعلمون)، وكان الظن لما أشبه العلمَ في الرجحان، أُطلق عليه؛ لتضمين معنى التوقع. قال أوس بن حجر:
فأرسلتُه مستيقِنَ الظنِّ أنه
…
مخالطُ ما بين الشراسيف جائفُ
انتهى ما قال البيضاوي. وليُلْحَظ استعماله التوقع، واتكاؤه في التأويل على تشبيه الظن بالعلم في الرجحان، وعودته إلى التوقع.
وأما عن قبول هذا المستوى في الإيمان. فعلينا أن نستحضر:
أ) أن اليقين بأمر ما = تتفاوت درجاته بين علم اليقين، وهو أدناها ويكون عن النظر والبرهان، وعين اليقين وهو أوسطها ويكون عن المعاينة، وحق اليقين وهو أعلاها. ويكون عن الانغمار والمخالطة (1).
ب) وأن الإيمان بالغيب هو شطر الإيمان {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 1 - 3] والغيب هو الخفي الذي لا يدركه الحِسّ ولا يقتضيه بديهة العقل. وهو قسمان: قسم لا دليل عليه، وهو المعنى بقوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وقسم نُصب عليه دليل كالصانع وصفاته والوم الآخر وأحواله، وهو المراد به في هذه الآية "اهـ من أنوار التنزيل. بل أقول إن التأمل في آية الغيب هذه وتفسيرها قد يجزم بأن الإيمان بالغيب هو محور هذا الدين -وليس الشطر فحسب. والذي نحن فيه في {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] وأختيها هو أمر غيب بكل جوانبه أعني اعتقاد لقاء اللَّه. فهي عقيدة في القلب في شيء مغيَّب غير معايَن.
(1) تفصيله في كشاف اصطلاحات الفنون (بسج) 4/ 471، الكليات للكفوي تح د. عدنان درويش ومحمد المصري 980، وهو عن أنوار التنزيل للبيضاوي.