الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِل الرَّشِيدُ، (1)(وَالثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ. (2)
وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَصِحُّ قَبُول الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِل الْوَدِيعَةَ؛ لأَِنَّ حُكْمَ هَذَا الْعَقْدِ لُزُومُ الْحِفْظِ، وَمَنْ لَا عَقْل لَهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْل الْحِفْظِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ اسْتِيدَاعِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(الأَْوَّل) :
لأَِكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِيدَاعُ الصَّبِيِّ، مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الإِْيدَاعِ الْحِفْظُ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ أَوْدَعَ أَحَدٌ وَدِيعَةً عِنْدَ صَبِيٍّ فَتَلِفَتْ عِنْدَهُ، لَمْ يَضْمَنْهَا، سَوَاءٌ حَفِظَهَا أَمْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، وَذَلِكَ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْتِزَامِهِ
(1) الْمَرَاجِعُ السَّابِقَةُ.
(2)
بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 6 / 207، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ 4 / 338، وَدُرَرُ الْحُكَّامِ 2 / 229، وَالْمَادَّةُ (776) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ.
الْحِفْظَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَرَكَهَا عِنْدَ بَالِغٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْفَاظٍ، فَتَلِفَتْ (1) .
أَمَّا إِذَا أَتْلَفَهَا الصَّبِيُّ الْمُسْتَوْدَعُ بِأَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَأْيَيْنِ:
فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. (2) وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَالِكَ سَلَّطَهُ عَلَيْهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا وَأَقْبَضَهُ إِيَّاهُ فَأَتْلَفَهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ.
وَبِأَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ قَدْ سَلَّطَ عَلَيْهَا مَنْ هُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ ضَمِنَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَجْرِ. غَيْرَ أَنَّ اللَّخْمِيَّ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَنْفَقَ الصَّبِيُّ
(1) كَشَّافُ الْقِنَاعِ 4 / 197، وَشَرْحُ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 450، وَالْمُغْنِي 9 / 279، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ 3 / 75، وَالزُّرْقَانِيَّ عَلَى خَلِيلٍ 6 / 125، وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل 5 / 267، وَالْمُهَذَّبُ 1 / 366، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 6 / 325، وَمَيَّارَة عَلَى التُّحْفَةِ وَحَاشِيَةُ الْحَسَنِ بْنِ رَحَّالٍ عَلَيْهِ 2 / 189، وَكِفَايَةُ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ وَحَاشِيَةُ الْعَدَوِيّ عَلَيْهِ 2 / 253، الْمَادَّةُ (1372) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَحَمَدَ.
(2)
رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 6 / 325، وَمَيَّارَة عَلَى التُّحْفَةِ 2 / 189، وَالإِْشْرَافُ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْل الْعِلْمِ لاِبْنِ الْمُنْذِرِ 1 / 265، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 4 / 197، وَالْمُغْنِي 9 / 279، وَانْظُرِ الْمَادَّةَ (1372) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
الْوَدِيعَةَ فِيمَا لَا غِنَى لَهُ عَنْهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَهُ مَالٌ، وَقَالُوا: يُرْجَعُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ بِالأَْقَل مِمَّا أَتْلَفَهُ أَوْ مِمَّا صُونَ بِهِ مَالُهُ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَضْمِينِ الصَّبِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِاسْتِيدَاعِهِ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَهْل الضَّمَانِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالاً لِغَيْرِهِ بِلَا اسْتِيدَاعٍ وَلَا تَسْلِيطٍ عَلَى الإِْتْلَافِ (2) . وَعَلَّل ابْنُ قُدَامَةَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَا ضَمِنَهُ بِإِتْلَافِهِ قَبْل الإِْيدَاعِ، ضَمِنَهُ بَعْدَ الإِْيدَاعِ كَالْبَالِغِ، وَأَنَّ الْمُودِعَ مَا سَلَّطَهُ عَلَى إِتْلَافِ الْوَدِيعَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْفَظَهُ إِيَّاهَا. (3)
وَقَدْ بَيَّنَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ أَسَاسَ الْفَرْقِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ التَّلَفِ وَالإِْتْلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَال: قَاعِدَةٌ: كُل مَنْ ضَمِنَ الْوَدِيعَةَ بِالإِْتْلَافِ ضَمِنَهَا بِالتَّفْرِيطِ إِلَاّ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِالإِْتْلَافِ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَلَا يَضْمَنُهَا بِالتَّفْرِيطِ قَطْعًا؛ لأَِنَّ الْمُفَرِّطَ هُوَ الَّذِي أَوْدَعَهُ (4) .
(1) مَيَّارَة عَلَى التُّحْفَةِ 2 / 189، وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل 5 / 267، وَالزُّرْقَانِيَّ عَلَى خَلِيلٍ 6 / 125.
(2)
تُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ 7 / 104، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ 3 / 75، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 6 / 325، وَالإِْنْصَافُ 6 / 336.
(3)
الْمُغْنِي 9 / 279، وَالإِْنْصَافُ 6 / 336 ـ 337.
(4)
الأَْشْبَاهُ وَالنَّظَائِرُ لِلسُّيُوطِيِّ ص 468.
(الثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ، فَيَصِحُّ قَبُولُهُ الْوَدِيعَةَ، لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الْحِفْظِ (1) . قَال الْكَاسَانِيُّ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْحِفْظِ، لَكَانَ الإِْذْنُ لَهُ سَفَهًا. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ، فَلَا يَصِحُّ قَبُول الْوَدِيعَةِ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْمَال عَادَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُنِعَ مِنْهُ مَالُهُ. (2)
وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (776) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الْمَأْذُونُ فَيَصِحُّ إِيدَاعُهُ وَقَبُولُهُ الْوَدِيعَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَبِل الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ الْوَدِيعَةَ، فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. أَمَّا إِذَا اسْتَهْلَكَهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَوْلُهُمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَضْمَنُ. (3)
وَجْهُ قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَنَّ إِيدَاعَهُ لَوْ صَحَّ، فَاسْتِهْلَاكُ الْوَدِيعَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ جُعِل كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَصَارَ الْحَال بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْحَال قَبْلَهُ، وَلَوِ اسْتَهْلَكَهَا قَبْل الْعَقْدِ
(1) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 6 / 207 وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ 4 / 338، وَشَرْحُ الْمَجَلَّةِ لِلأَْتَاسِيِّ 3 / 241.
(2)
الْبَدَائِعُ 6 / 207.
(3)
مَجْمَعُ الأَْنْهُرِ 2 / 338، وَدُرَرُ الْحُكَّامِ 2 / 229، وَشَرْحُ الْمَجَلَّةِ لِلأَْتَاسِيِّ 3 / 242.