الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّهِ بِأَنْ يُخَاصِمَ فِيهَا مَنْ غَصَبَهَا لاِسْتِرْجَاعِهَا أَوْ لِتَضْمِينِهِ بَدَلَهَا إِذَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ لِلْوَدِيعِ مُخَاصَمَةَ الْغَاصِبِ، لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ الْمَال الْمُودَعِ (1) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ لِلْوَدِيعِ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ أَزَالَهَا الْغَاصِبُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ نَفْسِهِ لإِِعَادَةِ الْيَدِ الَّتِي أَزَالَهَا بِالْغَصْبِ. وَلأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الْحِفْظُ إِلَاّ بِاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ مِنَ الْغَاصِبِ، أَوِ اسْتِرْدَادِ قِيمَتِهِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ، لِيَحْفَظَ مَالِيَّتَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ كَالْمَأْمُورِ بِهِ دَلَالَةً.
وَفِي إِثْبَاتِ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْحِفْظِ، لأَِنَّ الْغَاصِبَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْوَدِيعَ لَا يُخَاصِمُهُ فِي حَال غَيْبَةِ الْمُودِعِ، تَجَاسَرَ عَلَى أَخْذِهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْوَدِيعُ فِيهِ خَصْمًا (2) .
فَلَهُ حَقُّ الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةِ بِالْوَدِيعَةِ إِذْ غُصِبَتْ.
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَكَمَا أَنَّ لِلْوَدِيعِ أَنْ يُخَاصِمَ الْغَاصِبَ بِالْوَدِيعَةِ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ
(1) الْمَبْسُوط 11 / 124، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 4 / 359، وَالْمُبْدِع 5 / 247، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 458، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 205.
(2)
الْمَبْسُوط 11 / 124.
سَارِقَهَا وَمُتْلِفَهَا وَمُلْتَقِطَهَا إِذَا ضَاعَتْ مِنْهُ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَدِيعِ بِأَنْ يُخَاصِمَ بِالْوَدِيعَةِ، لأَِنَّ الْمَال الْمُودَعَ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يُخَاصِمُ لاِسْتِرْدَادِهِ أَوْ بَدَلِهِ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ، وَالْوَدِيعُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْهُ فِي الْخُصُومَةِ، فَلَا يُخَاصِمُ فِي الاِسْتِرْدَادِ، كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الإِْيدَاعَ اسْتِحْفَاظٌ وَائْتِمَانٌ، فَلَا يَتَضَمَّنُ الْخُصُومَةَ (2) .
تَعَدُّدُ الْوَدِيعِ:
70 -
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُمْكِنُ إِيدَاعُ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا تَعَدَّدَ الْوَدِيعُ بِأَنْ كَانَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْوَدِيعَةُ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ ـ يَعْنِي أَنَّ تَقْسِيمَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَلْبَتَّةَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَيَوَانًا، أَوْ كَانَ تَقْسِيمُهَا مُمْكِنًا، وَلَكِنْ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا عِنْدَ تَقْسِيمِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ ثَوْبًا ـ فَيَحْفَظُهَا أَحَدُهُمْ بِإِذْنِ الْبَاقِينَ، أَوْ يَحْفَظُونَهَا مُنَاوَبَةً، أَيْ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ،
(1) الْعُقُود الدُّرِّيَّة لاِبْنِ عَابِدِينَ 2 / 76، وَرَوْضَة 2 / 627، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 4 / 359.
(2)
الْمُبْدِع 5 / 247، وَالإِْشْرَاف لِلْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب 2 / 43.
لأَِنَّ الْمَالِكَ لَمَّا أَوْدَعَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى حِفْظِهَا دَائِمًا، كَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ يَدِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الاِنْفِرَادِ فِي الْكُل. وَبِهَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ: إِذَا هَلَكَتِ الْوَدِيعَةُ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. أَمَّا إِذَا هَلَكَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، فَيَضْمَنُ الْمُتَعَدِّي أَوِ الْمُقَصِّرُ وَحْدَهُ، وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ عَلَى الآْخَرِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ ـ كَالْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي لَا تَتَعَيَّبُ بِالتَّقْسِيمِ ـ فَيُقَسِّمُهَا الْمُسْتَوْدَعُونَ بَيْنَهُمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَحْفَظُ حِصَّتَهُ مِنْهَا. لأَِنَّ الْوَدِيعَ إِنَّمَا يَلْتَزِمُ الْحِفْظَ بِحَسَبِ إِمْكَانِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعِينَ ـ مَثَلاً ـ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا جَمِيعَ أَشْغَالِهِمْ وَيَجْتَمِعُوا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ، وَالْمَالِكُ لَمَّا أَوْدَعَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَدِيعَةً تَحْتَمِل الْقِسْمَةَ، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِقِسْمَتِهَا، وَحِفْظِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِجُزْءٍ مِنْهَا دَلَالَةً.
وَبِهَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ لأَِحَدِهِمْ أَنْ يُسَلِّمَ حِصَّتَهُ لِوَدِيعٍ آخَرَ بِدُونِ إِذْنِ الْمُودِعِ، لأَِنَّ الْمَالِكَ عِنْدَمَا أَوْدَعَ الْمَال الْقَابِل لِلْقِسْمَةِ لأَِشْخَاصٍ مُتَعَدِّدِينَ، فَقَدْ رَضِيَ بِثُبُوتِ يَدِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْكُل، إِذْ رِضَاهُ بِحِفْظِ الاِثْنَيْنِ ـ مَثَلاً ـ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِحِفْظِ
الْوَاحِدِ. وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ لآِخَرَ، فَهَلَكَتْ فِي يَدِ الآْخَرِ، بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ مِنْهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا، بَل يَلْزَمُ الَّذِي سَلَّمَهُ إِيَّاهَا ضَمَانُ حِصَّتِهِ مِنْهَا. أَيْ لَا يَلْزَمُ الضَّمَانُ لِلْوَدِيعِ الآْخَرِ الَّذِي تَسَلَّمَ الْوَدِيعَةَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَيْهِ جَرَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ.
وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَفِظُ كُل الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ الآْخَرِ، لأَِنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا، فَكَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ حِصَّتَهُ لِلآْخَرِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَوْدَعَ شَخْصٌ اثْنَيْنِ وَغَابَ، فَتَنَازَعَا فِيمَنْ تَكُونُ بِيَدِهِ، جُعِلَتْ بِيَدِ الأَْعْدَل مِنْهُمَا، فَإِنْ حَصَل فِيهَا مَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ، كَانَ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ. وَيُحْتَمَل مِنَ الآْخَرِ أَيْضًا، لِكَوْنِهِ مُودَعًا أَيْضًا مِنْ رَبِّهَا. فَإِنْ تَسَاوَيَا عَدَالَةً، جُعِلَتْ بِأَيْدِيهِمَا (2) .
(1) الْبَدَائِع 6 / 208، وَرَدّ الْمُحْتَارِ 4 / 449، وَالْمَبْسُوطِ 11 / 125، 131، وَقُرَّة عُيُون الأَْخْيَار 2 / 255، وَمَجْمَع الأَْنْهُر وَالدَّرّ الْمُنْتَقَى 2 / 342، وَدُرَر الْحُكَّام 2 / 244، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 4 / 355، وَانْظُرِ الْمَادَّة (783) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّة.
(2)
الزُّرْقَانِيّ عَلَى خَلِيل 6 / 126.