الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي رُكْنِ الْوَصِيَّةِ:
فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: الرُّكْنُ هُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، الإِْيجَابُ مِنَ الْمُوصِي وَالْقَبُول مِنَ الْمُوصَى لَهُ، فَمَا لَمْ يُوجَدَا جَمِيعًا لَا يَتِمُّ الرُّكْنُ، وَقَالُوا: إِنْ شِئْتَ قُلْتَ رُكْنُ الْوَصِيَّةِ الإِْيجَابُ مِنَ الْمُوصِي وَعَدَمُ الرَّدِّ مِنَ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ رَدِّهِ.
وَقَال زُفَرُ: رُكْنُ الْوَصِيَّةِ هُوَ الإِْيجَابُ مِنَ الْمُوصِي فَقَطْ، وَاسْتَدَل بِأَنَّ مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْوَارِثِ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمِلْكَيْنِ يَنْتَقِل بِالْمَوْتِ ثُمَّ مِلْكُ الْوَارِثِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولِهِ، فَكَذَا مِلْكُ الْمُوصَى لَهُ.
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَانِ عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول مَعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} )(1) فَظَاهِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلإِْنْسَانِ شَيْءٌ بِدُونِ سَعْيِهِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ سَعْيِهِ وَهَذَا مَنْفِيٌّ إِلَاّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلأَِنَّ الْقَوْل بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ
(1) سُورَة النَّجْمِ: 39.
يُؤَدِّي إِلَى الإِْضْرَارِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْحَقُهُ ضَرَرُ الْمِنَّةِ، وَلِهَذَا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى قَبُولِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّ بِهِ قَدْ يَكُونُ شَيْئًا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُوصَى لَهُ فَلَوْ لَزِمَهُ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ لَلَحِقَهُ الضَّرَرُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ وَإِلْزَامِ مَنْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الإِْلْزَامِ إِذْ لَيْسَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إِلْزَامِ الضَّرَرِ فَلَا يَلْزَمُهُ. (1)
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الصِّيغَةُ:
9 -
الصِّيغَةُ تَتَكَوَّنُ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَيَتِمُّ الإِْيجَابُ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى التَّمْلِيكِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَقَوْل الْمُوصِي: وَصَّيْتُ لَكَ بِكَذَا، أَوْ وَصَّيْتُ لِزَيْدٍ بِكَذَا، أَوْ أَعْطُوهُ مِنْ مَالِي بَعْدَ مَوْتِي كَذَا، أَوِ ادْفَعُوهُ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ جَعَلْتُهُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ هُوَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ هُوَ لَهُ مِنْ مَالِي بَعْدَ مَوْتِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ. (2)
وَتَنْعَقِدُ الْوَصِيَّةُ بِالْكِتَابَةِ كَاللَّفْظِ بِاتِّفَاقِ
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 416 ط بُولَاق، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 331ـ332، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 184.
(2)
الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 90، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 344، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 52.
الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ إِلَاّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ (1) وَلَمْ يَذْكُرْ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْكِتَابَةِ، فَدَل عَلَى الاِكْتِفَاءِ بِهَا، وَلأَِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ وَغَيْرِهِمْ مُلْزِمًا لِلْعَمَل بِتِلْكَ الْكِتَابَةِ وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلأَِنَّ الْكِتَابَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْمَقْصُودِ فَهِيَ كَاللَّفْظِ.
إِلَاّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اعْتَبَرُوا الْكِتَابَةَ كِنَايَةً فَلَا تَنْعَقِدُ بِهَا إِلَاّ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الاِعْتِرَافِ بِهَا نُطْقًا مِنَ الْوَصِيِّ أَوْ مِنْ وَارِثِهِ
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِالْكِتَابَةِ وَالْعَمَل بِهَا أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ الْمَكْتُوبَةُ بِخَطِّ الْمُوصِي الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ وَرَثَتِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ تُعَرِّفُ خَطَّهُ. (2)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ انْعِقَادِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ.
(1) حَدِيث: (مَا حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. .) تَقَدَّمَ تَخْرِيجه ف 5.
(2)
الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيم ص 339، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 601، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 36، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 337.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الْكَلَامِ. (1)
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْشَارَةِ مِنْ مُعْتَقَل اللِّسَانِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِنْ كَانَ الْمُوصِي مُعْتَقَلاً لِسَانُهُ بِإِشَارَةٍ وَلَوْ فُهِمَ، إِلَاّ إِنْ أَيِسَ مِنْ نُطْقِهِ بِأَنْ دَامَتِ الْعُقْلَةُ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اعْتُقِل لِسَانُهُ لَوَصِيَّتُهُ تَصِحُّ بِالإِْشَارَةِ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (إِشَارَة ف11، صِيغَة ف12) .
أَمَّا الْقَبُول فَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْمُرَادِ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْقَبُول الْمَطْلُوبَ: هُوَ عَدَمُ الرَّدِّ، فَيَكْفِي إِمَّا الْقَبُول الصَّرِيحُ، مِثْل: قَبِلْتُ الْوَصِيَّةَ أَوْ رَضِيتُ بِهَا،
(1) الأَْشْبَاه لاِبْنِ نَجِيم ص 343، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 584، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 444، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 52 - 53.
(2)
الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيم ص 344، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 36، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 584 وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336.