الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو قِلابة: "هؤلاء قومٌ سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إِيمانهم وحاربوا الله ورسوله"(1).
وفي رواية: "فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: {إنَّمَا جَزَاءُ الذينَ يُحَارِبونَ اللهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً} "(2).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
…
ونزلت فيهم آية المحاربة" (3).
وفي رواية: "
…
فلمَّا صحّوا كفروا بعد إِسلامهم، وقتَلوا راعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً، واستاقوا ذود (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلقوا محاربين" (5).
العقوبات التي قررتها الآية الكريمة:
والعقوبة التي قررتها هذه الآية للذين يحاربون الله ورسوله، ويَسعَونَ في الأرضِ فساداً، هي إِحدى عقوبات أربع:
(1) أخرجه البخاري (6805).
(2)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(3670).
(3)
أخرجه النسائي (3772) وقال شيخنا رحمه الله في "صحيح سنن النسائي": حسن صحيح.
(4)
الذَّود من الإِبل: ما بين الثنتين إِلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إِلى العشر "النهاية".
(5)
"صحيح سنن النسائي"(3762) وأَصل أكثر هذه الألفاظ في "الصحيحين" كما تقدّم.
1 -
القتل.
2 -
أو الصَّلْب.
3 -
أو تقطيع الأيدي والأرجُل من خِلاف.
4 -
أو النَّفْي من الأرض.
وهذه العقوبات جاءت في الآية معطوفة بحرف "أو" وقد اختلف العلماء في "أو" في هذه الآية الكريمة، أهي للتَّخيير أم للتَّفصيل؟ (1).
(1) جاء في كتاب "أثر الدلالة النحويَّة واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية" للأستاذ السعدي (ص 138) -بحذف-:
…
ذهب فريق [من الفقهاء] إِلى أنَّ السلطة مخيَّرة بين العقوبات المذكورة، وأيُّها رآها السلطان أنفع للمصلحة أنْزلها بهم، ومن هؤلاء سعيد بن المسيب، ومجاهد، والحسن البصري، وعطاء، ومالك (أ).
ويرى أكثرهم أن هذه العقوبات تنزل بهم على حسب جنايتهم، فَمَن قَتَلَ قُتِلَ، ومَن قَتَلَ وأخَذَ المال قُتلَ وصُلِبَ، ومَن أَخَذَ المال بلا قَتْل قُطِعَت يده ورجلُه من خلاف، ومن أخاف أهل السبيل فقط فلم يَقْتُل ولم يأخُذ مالاً: نُفِيَ.
ومن القائلين بهذا ابن عبَّاس، والأوزاعي، وأبو يوسف ومحمد من الأحناف والشافعي (ب).
_________
(أ) انظر "بداية المجتهد"(2/ 445)، و"البحر المحيط"(3/ 470).
(ب) انظر "بدائع الصنائع"(7/ 93 - 94)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 145)، و"تفسير آيات الأحكام"(2/ 184).
وقد ضعَّف شيخنا رحمه الله هذا الأثر كما في "الإرواء" برقم (2441 و2444). الدليل النحوي للفريق الأوَّل:
إِنَّ "أو" في الآية للتخيير، فالسلطانُ مُخيَّر في إنزال أى عقوبة يراها مما ذُكر؛ مِن غير =
والذي يترجَّح لديّ أنَّ التَّخيير ليس بإِطلاق؛ ولا هو بالانتقائي، وإِنَّما هو نابعٌ مِنْ مرآة الفقه والعِلم وتحقيق العدل والإِنصاف، وعدم التسوية في
= ملاحظة تناسبهم مع جناياتهم؛ لأنَّ ذلك مقتضٍ التَّخيير.
وحجَّة الفريق الثاني:
أن "أو" للتَّفصيل، والعرب تستعملها كثيراً بهذا المعنى، فيقولون:"اجتمع القوم فقالوا حارِبوا أو صالحوا، أي قال: بعضهم كذا وبعضهم كذا".
ويقوِّيه قول الله -تعالى-: {وقَالُوا كُونُوا هُوداً أو نَصَارَى تَهْتَدُوا} وليس المقصود التخيير، لأنَّه ليس هناك فرقة تخير بين اليهودية، والنَّصرانيَّة، بل كلٌّ يدعو إلى دينه، فكان المعنى: أنَّ بعضهم -وهم اليهود- قالوا كونوا هوداً، وبعضهم -وهم النَّصارى- قالوا كونوا نصارى.
وكثيراً ما تعتمد العرب على لفّ الكلامَين المختَلِفَين وتسمح بتفسيرها جملة، ثقةً منها بأنَّ السَّامع يردّ كلَّ مخبر عنه بما يليق به، كقول امرئ القيس:
كأنَّ قلوب الطير رطباً ويابساً
…
لدى وكْرِها العناب والحشف البالي
فالعناب هو الرَّطب، والحشف هو اليابس، وقد لفهما بعبارة واحدة.
…
فلمَّا كانت "أو" للتفصيل، فإِنَّها قد فصَّلت أحكام قطاع الطريق وجَعَلت لكل منهم حُكمه؛ لأنَّ جناياتهم لا بد من أن تكون مختلفة، وحينئذ يجب تقدير شرط محذوف ينسجم مع معنى التفصيل.
فيكون التقدير: أن يقَتَّلوا إِنْ قَتَلُوا، أو يُصَلَّبُوا إن قَتَلُوا وأخذوا المال، أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم إِن أخذوا المال ولم يَقْتُلوا، أو يُنْفَوا من الأرض إن أخَافُوا السائرين في السبيل فقط.
ولدى موازنة الرَّأيين يتَّضِح لنا رُجْحان رأي الفريق الثاني لما يأتي:
1 -
جعل "أو" في هذه الآية للتفصيل أولى من جَعْلها للتَّخيير، لأنَّنا إِذا تتبَّعنا كلام =
اقتراف الجريمة والإِفساد، كما في قوله -تعالى-:{وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلها} (1).
= النُّحاة نجدهم يجعلون "أو" للتَّخيير بعد الطلب غالباً، وذلك واضح مِن أمثلتهم. وقد صرَّح ابن هشام بذلك فقال:"وهي الواقعة بعد الطلب"(1).
وحيث لم تقع بعد طلب في هذه الآية، فإِنَّ حَمْلها على التَّفصيل أولى من الناحية النَّحويَّة، وكذلك من الناحية الشَّرعيَّة؛ لأن القاعدة العامَّة في التَّشريع الإسلامي أنَّ العقوبة تكون بمقدار الجناية، لقوله -تعالى- في جزاء جناية صيد المحرم في الحج:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النًعَمِ} (ب).
2 -
لو سلَّمنا أنَّها للتخيير على رأي الفريق الأوَّل، فإنَّه لدى التَّحقيق يتبيَّن لنا أنَّ مِثل هذا التَّخيير يتَّفق مع معنى التَّفصيل من حيثُ المعنى، وذلك لأنَّ الحكم المخير فيه إِذا كان سببه مختلفاً فإِنَّه يكون لبيان كل واحد من المخير بنفسه.
يوضح ذلك قوله -تعالى-: {إِمَّا أنْ تُعَذِّبَ وإِمّا أن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} (ج). فإنَّه ليس المراد هنا التَّخيير بين التَّعذيب أو الإِحسان مُطلقاً من غير ملاحظة عَمَل من يعذبهم أو يحسن إليهم، وإنما المراد بيان حُكمِ كلِّ صنف، أي إِمّا أن تعذب من ظلم أو تَتَّخذ الحسن فيمن آمن ولم يظلم.
فكذلك التخيير في إنزال العقوبة بقطاع الطريق إِنَّما يكون لبيان كل صنف منهم على حِدَة؛ لأنَّ سبب تلك العقوبة مُختلف. وبهذا يتَّضِح لنا أنَّ إِنزال العقوبة بهم يكون على وفق جنايتهم
…
".
_________
(أ)"مغني اللبيب"(1/ 59).
(ب) المائدة: 95.
(ج) الكهف: 86.
(1)
الشورى: 40.
وهكذا فلا بدَّ مِن حَمل التَّخيير على التَّفصيل، فلا إِشكال، وقد أشار الأستاذ السَّعدي إِلى هذا جزاه الله خيراً.
وجاء في "الروضة النديَّة"(2/ 618) -بحذف-: "يفعل الإِمامُ مِنْها ما رأى فيه صلاحاً؛ لكلِّ منْ قَطَعَ طَريقاً وَلَو في المِصْر إِذا كان قد يسَعَى في الأرض فَساداً".
هذا ظاهر ما دلَّ عليه الكتاب العزيز مِنْ غير نظرٍ إِلى ما حدث من المذاهب، فإِنَّ الله -سبحانه- قال:{إِنَّمَا جَزَاءُ الذينَ يُحَارِبُونَ اللهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً} (1)، فضمَّ إلى محاربة الله ورسوله
…
السَّعي في الأرض فساداً، فكان ذلك دليلاً على أنَّ مَن عصى الله ورسوله بالسَّعي في الأرض فساداً؛ كان حدُّه ما ذكره الله في الآية.
ولمّا كانت الآية الكريمة نازلة في قُطَّاع الطريق وهم العرنيُّون، كان دخولُ مَن قَطَعَ طريقاً تحت عموم الآية دخولاً أوَّليّاً ثم حصر الجزاء في قوله:{أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أيْدِيهمْ وأرْجُلُهُم منْ خِلاف أو يُنْفَوا مِنَ الأرضِ} فخيَّر بين هذه الأنواع فكان للإِمام أن يختار ما رأى فيه صلاحاً منها.
فإِنْ لم يكن إِمامٌ فمن يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات، فهذا ما يقتضيه نَظْم القرآن الكريم، ولم يأت من الأدلَّة النبويَّة ما يصرف ما يدلّ عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب.
(1) المائدة: 33.
أمَّا ما روي عن ابن عباس كما أخرجه الشافعي في "مسنده" أنَّه قال في قُطَّاع الطَّريق: "إِذا قَتَلوا وأخذوا الأموال صُلِّبوا، وإِذا قتلُوا ولم يأخذوا المالَ قُتِلُوا ولم يُصَلَّبُوا، وإِذا أخذوا المال ولم يقتُلُوا قُطِعَت أيْديهم وأرْجلهم من خِلاف، وإِذا أخافُوا السَّبيل ولم يأخذوا مالاً نُفُوا من الأرض".
فليس هذا الاجتهاد ممَّا تقوم به الحُجَّة على أحد، ولو فرضنا أنَّه في حكم التَّفسير للآية. وإِنْ كان مخالفاً لها غاية المخالفة، ففي إِسناده إِبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف جدّاً لا تقوم بمثله الحُجَّة (1).
وقد ذهب إِلى مِثل ما ذهبنا إِليه جماعة من السَّلف كالحسن البصري وابن المسيِّب ومجاهد.
وأسعد الناس بالحق من كان معه كتاب الله. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرنيين أنَّه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية -وهو القَطْع كما في الصحيحين، وغيرهما من حديث أنس- والمراد بالصلب المذكور في الآية هو الصلب على الجذوع، أو نحوها حتَّى يموت إِذا رأى الإِمام ذلك، أو يصلبه صلباً لا يموت فيه. فإِنَّ اسم الصَّلب يصدُق على الصَّلب المفضي إِلى الموت، والصَّلب الذي لا يُفضي إِلى الموت.
ولو فرضنا أنَّه يختصّ بالصَّلب المفضي إِلى الموت. لم يكن في ذلك تكرار بعد ذِكر القتل، لأنَّ الصَّلب هو قتْلٌ خاص. وأمَّا النَّفي من الأرض فهو طرْده من الأرض التي أفسد فيها
…
" انتهى.
قلت: وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث: "
…
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) انظر "الإِرواء"(2443).