الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالنّاس زمانٌ؛ حتّى يقول قائل لا نجدُ الرجم في كتاب الله؛ فيضلّوا بترك فريضة أنَزَلها الله، ألا وإِنّ الرجم حقٌّ على مَن زنى، وقد أحصَن إِذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف" (1).
ماذا يفعل الإِمام إِذا جاءه من أقرّ على نفسه بالزنى
؟
إِذا جاءَ منْ يُقرّ على نفْسه بالزِّنى عند الإِمام؛ فعلى هذا الإمام أن يعمل بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: "تَعَافَوُا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ فقد وجب"(2).
قال ابن الأثير في "النهاية": "تَعَافَوُا الحدود فيما بينكم" أي: تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إِليَّ؛ فإِنِّي متى علمتها أقمتها.
وعن نُعيم بن هَزّال قال: كان ماعز بن مالك يتيماً في حِجْر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك، وإِنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرجاً.
فأتاه فقال: يا رسول الله إِني زنيت، فأقم عليّ كتاب الله! فأعرض عنه، فعاد فقال: يا رسول الله، إِني زنيت فأقم عليّ كتاب الله! حتى قالها أربع مرار.
قال صلى الله عليه وسلم: "إِنّك قد قُلتها أربع مرّات، فبمن؟ قال: بفلانة، قال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم؟ قال: هل باشرتها؟ قال: نعم قال: هل جامعتها؟ قال:
(1) أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691) وتقدّم.
(2)
أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه "صحيح سنن أبي داود"(3680) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(2951) والنسائي "صحيح سنن النسائي"(4538).
نعم؛ قال: فأَمَر به أن يُرجَم، فأُخرج به إِلى الحرّة.
فلمّا رُجِم فوجد مَسَّ الحجارة جزع فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس، وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير (1)، فرماه به فقتله، ثمّ أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: هلا تركتموه" (2).
وعن محمّد بن إِسحاق قال: "ذكرت لعاصم بن عمرو بن قتادة قصة ماعز بن مالك، فقال لي: حدَّثني حسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب، قال: حدَّثني ذلك مِن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلاّ تركتموه" من شئتم من رجال أسلم ممن لا أتهم، قال: ولم أعرف الحديث، قال: فجئت جابر بن عبد الله فقلت: إِنّ رجالاً مِن أسلم يحدثون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم حين ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته: "ألا تركتموه" وما أعرف الحديث. قال: يا ابن أخي، أنا أعلم الناس بهذا الحديث، كنت فيمن رجَم الرجل، إِنّا لما خرجنا به فرجمناه، فوجد مسّ الحجارة صرخ بنا:
يا قوم ردّوني إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإِنّ قومي قتلوني وغرُّوني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتّى قتلناه، فلمّا رجعنا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال:
فهلا تركتموه وجئتموني به ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأما لترك حد فلا! " (3).
(1) وظيف البعير: خفّه، وهو له كالحافر للفرس. "النهاية".
(2)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(3716)، وانظر "الإِرواء"(2322).
(3)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(3717)، وانظر "الإِرواء"(7/ 354).
وعن ابن عباس قال: "جاء ماعز بن مالك إِلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا مرتين فطرده، ثمّ جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال: شهدت علي نفسك أربع مرّات، اذهبوا به فارجموه"(1).
فتأمّل حديث نعيم بن هزال وقوله: "فأعرَض عنه" أي أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: إِني زنيت وأيضاً: "حتّى قالها أربع مرار، ثمّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّك قد قلتها أربع مرّات فبمن؟ ".
فماذا لو قالها مرةً، وحين رأى إِعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم، مضى ولم يعُد؟!
وتأمّل قوله صلى الله عليه وسلم: "هل ضاجَعَتها؟
…
هل باشرتها؟
…
هل جامعتها؟
وفي بعض الروايات: "لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت" حتى قال: "أنِكتَها، لا يُكنّي"(2).
وتأمّل بعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "هلا تركتموه" حينما بلغه جزعُه وفرارُه من الرجم.
فهذا فيه ما فيه من الدعوة إِلى ستْر النفس والإِقلاع عن المعصية والندم وإِحسان التوبة إِلى الله عز وجل وهذا مطلبٌ سامٍ ومقصد عظيم، -والله أعلم-.
وأما ما جاء في رواية محمد بن إِسحاق
…
في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا تركتموه وجئتموني به، ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأمّا لترْكِ حد فلا" فهذه ليست من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإِنما هي تفسير مِن الراوي، والسؤال ماذا بعد
(1) أخرجه مسلم (1693) وأبو داود واللفظ له "صحيح سنن أبي داود"(3723).
(2)
أخرجه البخاري (6824).
أن يستثبت منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعيده للرجم أم ماذا؟!
فإِن قالوا: يعيده للرجم فلا فائدة من الاستثبات، لأن الاستثبات ليس بثبوت زناه، وإِنّما لأن قومه غرّوه من نفسه أنه لن يُقتل! وأي فائدة في ذلك؟!
فالحكمة واضحة بيّنة، وقد جاء هذا صريحاً من حديث بريدة بن الحصيب قال:"ثمّ جاءت امرأه من غامد الأَزْد فقالت: يا رسول الله! طهّرني فقال: ويحك؛ ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِليه"(1).
ولكن لما كان الإِصرار والإِلحاح والمتابعة من ماعز والغامديّة؛ والنّاس ينظرون؛ فإِنه لا بدّ من إِقامة الحد؛ لأن هناك مفسدةً في عدم إِقامته، والحاصل أنه إِذا بلغَ الإِمام أمْرٌ كهذا أعرَض وذكّر بالاستغفار والتوبة، فإِنْ أصرّ مُقارِفُ الفاحشة على إِقامة الحد؛ أقيم عليه. والله أعلم.
ويؤيِّد هذا ما ثبت عن الأجلح عن الشعبي قال: "جيء بشُرَاحة الهمدانية إِلى علي رضي الله عنه فقال لها: ويلك لعل رجلاً وقع عليكِ وأنت نائمة، قالت: لا، قال لعلك استكرهت، قالت: لا، قال: لعل زوجك من عدونا هذا أتاك؛ فأنت تكرهين أن تدلي عليه، يُلقِّنها لعلَّها تقول: نعم.
قال: فأمَر بها فحُبست، فلمَّا وضعت ما في بطنها، أخرجها يوم الخميس فضربها مائة، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة، وأحاط الناس بها، وأخذوا الحجارة، فقال: ليس هكذا الرجم، إِذاً يُصيب بعضكم بعضاً، صفّوا كصفّ الصلاة صفاً خلف صفّ.
(1) أخرجه مسلم (1695).