الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القِصاص
القصاص من قولِكَ: قَصَصْتُ الأثَرَ، وأقْصَصتُه: إِذا اتَّبعْتَه، قال الله -تعالى-:{وقَاَلَتْ لأختِه قُصِّيهِ} (1) أي: اتْبَعِي أثَره.
وقال في قصة موسى عليه السلام وفتاهُ: {فَارتدا عَلَى آثارِهما قَصَصاً} (2) كذلك القِصاص إِنِّما هو سُلوكُ مِثْل الطَّريقةِ التي فَعَلها الجارِحُ، لأنه يُؤتَى إِليه مثلَ ما أتَاَه هو (3).
وجاء في كتاب "التعريفات": "هو أن يُفعل بالفاعل مثل ما فَعَل".
وفي "طِلبة الطَّلَبَة": "القتل بإِزَاءِ القتلِ، وإِتْلاف الطَّرف بإِزَاءِ إِتْلاف الطَّرف.
وقد اقتصَّ وليُّ المقتولِ من القاتلِ: أي: اسْتَوفَى قِصاصَهُ. وأقصَّه السّلطانُ منَ القَاتِل؛ أي: أوفَاه قصاصهُ، وهو من قولِكَ قصَّ الأَثرَ، واقْتَصَّه: أي: اتَّبَعَهُ، وقصَّ الحديث واقتصَّه؛ أي: رَوَاه على جهتِه، وهو كذلكَ أيضاً، أي: من الاتَّباع
…
".
شروط القِصاص
(4):
1 -
أن يكون الجاني مُكلَّفاً، فأمّا الصبيّ والمجنون فلا قِصاص عليهما، لا
(1) القصص: 11.
(2)
الكهف: 64.
(3)
انظر "حلية الفقهاء".
(4)
ملتقط من "الشرح الكبير"(9/ 350) و"فقه السنة"(3/ 301) بزيادة وتصرف.
خلاف بين أهل العِلم؛ في أنه لا قِصاص على الصبيّ والمجنون، وكذلك كلُّ زائل العقل بسببٍ يُعذر فيه كالنائم؛ لقول صلى الله عليه وسلم:"رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"(1).
ولأنّ القِصاص عقوبة مغلّظة؛ فلم تجب على الصبيّ وزائل العقل كالحدود ولأنهم ليس لهم قصدٌ صحيح، فهم كالقاتل خطأً.
وإِذا كان المجنون يزول عنه جنونه أحياناً، فقَتل اقتصّ منه، وإِذا شرب رجلٌ شيئاً ظنّه غير مسكر، فزال عقله فقَتل في هذه الحال، فلا قِصاص عليه.
2 -
أن يكون المقتول معصوماً؛ فلا يجب القِصاص بقتلِ حربيّ؛ ولا يجب بقتله؛ ديَة ولا كفارة، وكذا الزاني المحصَن أو المرتد.
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: "لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إِله إِلا الله وأني رسول الله إِلا بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّب الزانى، والمفارق لدينه التارك للجماعة"(2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ أعمى كانت له أمّ ولد، تشتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وتقَع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر.
قال: فلمّا كانت ذات ليلة جَعَلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(3703)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(1661) وغيرهما، وانظر "الإِرواء"(297). وتقدّم.
(2)
أخرجه البخاري (6878)، مسلم (1676) وتقدّم.
المِغْوَل (1) فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتَلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم.
فلمّا أصبح ذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمَع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فَعل ما فَعل لي عليه حقّ، إِلا قام.
فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل حتى قَعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلمّا كانت البارحة جَعَلت تشتمك وتقع فيك، فأخذتُ المِغْوَل فوضعْتُه في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلْتُها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أنّ دمها هدر" (2).
3 -
أن يكون المجنيَّ عليه مسلماً، فلا يُقتل مؤمن بكافر.
عن أبي جُحَيفةَ قال: "سألت علياً رضي الله عنه: هل عندكم شيء ما ليس في القرآن -وقال مُرة: ما ليس عند الناس- فقال: والذي فلقَ الحبَّةَ وبَرأ النَّسمةَ (3)، ما عندَنا إِلا ما في القرآن -إِلا فَهْماً يُعطَى رجلٌ في كتابه- وما في الصحيفة.
قلتُ: وما في الصحيفة؟ قال: العقلُ، وفكاكُ الأسير، وأن لا يُقتل مسلمٌ
(1) المِغْوَل: شبه سيف قصير، يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطّيه، وقيل هو حديدة دقيقة لها حَدٌّ ماضٍ، وقيل هو سوط في جوفه سيف دقيق يشده الفاتك على وسطه ليغتال به الناس. "النهاية".
(2)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(3665)، والنسائي "صحيح سنن النسائي"(3794)، وتقدّم.
(3)
النسمة: أي خَلَقَ ذات الرُّوح. "النهاية".
بكافر" (1).
وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يُقتل مؤمن بكافر"(2).
وقد اختلف العلماء هل يُقتل الحُرّ بالعبد؛ والراجح أنه يُقتل لقوله -تعالى-: {وكَتَبْنا عليهم فيها أنّ النفسَ بالنفس} (3).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ (4) دماؤُهم ويسعى بذمّتهم أدناهم"(5).
قال الإِمام الطبري رحمه الله فإِن قال قائل: فإِنه -تعالى-: ذكْره قال: {كُتِبَ عليكم القِصاص في القتلى الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبَدِ والأنثى بالأنثى} فما لنا أن نقتصّ للحرّ إِلا من الحرّ، ولا للأنثى إِلا من الأنثى؟
قيل: بل لنا أن نقتصّ للحرّ من العبد وللأنثى من الذَّكر، بقول الله -تعالى- ذكْره:{وَمَن قُتلَ مَظْلُوماً فَقَد جَعَلنا لوليّه سُلطَاناً} (6).
وبالنقل المستفيَض عن رسول اللهَ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "المسلمون تتكافأ دماؤُهم".
(1) أخرجه البخاري (6903).
(2)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(3797)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(2153) والنسائي، "صحيح سنن النسائي"(4412)، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(2208).
(3)
المائدة: 5.
(4)
تتكافأ: تتساوى في القصاص والدِّيات. "النهاية".
(5)
أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإِرواء"(2208).
(6)
الإِسراء: 33.
وقال: فإِنْ قال ذلك، فما وجه تأويل هذه الآية؟
قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: نَزَلت هذه الآية في قوم كانوا إِذا قَتَل الرجُل منهم عبدَ قومٍ آخرين؛ لم يرضوا مِنْ قتيلهم بدم قاتله؛ من أجل أنه عبد حتى يَقتُلوا به سيده.
وإذا قَتَلَت المرأة من غيرهم رجلاً لم يرضوا من دم صاحبها بالمرأة القاتلة، حتى يقتلوا رجلاً من رهط المرأة وعشيرتها، فأنزل الله هذه الآية، فأعلمهم أن الذي فَرَض لهم من القِصاص أن يقتلوا بالرجل الرجل القاتل دون غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبالعبد العبد القاتلَ دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدُّوا القاتلَ إِلى غيره في القِصاص".
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- عدداً من الآثار في ذلك، وذكَر وجوهاً أُخرى ومناسبات عديدة ساقها بإسناده ثم قال رحمه الله:" .. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العام؛ أنّ نفس الرجل قَوَدٌ قِصاصاً بنفس المرأة الحرة".
ثم قال رحمه الله: "وإِذا كان كذلك؛ كان بيِّناً بذلك؛ أنه لم يُرَدْ بقوله -تعالى-: ذِكْره: {الحرّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى} أن لا يقادَ العبد بالحرّ، وأن لا تُقتَل الأنثى بالذكر، ولا الذكر بالأنثى
…
" انتهى.
قلت: أمّا حديث: "لا يُقاد مملوك من مالكه" فإِنه لا يثبُت، وانظر تفصيل ذلك في "الإِرواء"(7/ 270).
وكذا أثرُ علي رضي الله عنه: "من السُّنة أن لا يُقتل حُرٌّ بعبد" فهو ضعيف جداً، وانظر "الإِرواء" أيضاً (2211).
وفي "صحيح سنن أبي داود"(3788) عن الحسن قال: "لا يُقاد الحر بالعبد" وهو صحيح مقطوع، ولا حُجّة فيه، كما لا يخفى على أهل العلم. والله -تعالى- أعلم.
أقول: أمّا أن يقاد الرجل بالمرأة والعكس؛ ففيه عدد من الأدلة؛ إِضافة إِلى النصوص العامة المتقدمة.
قال البخاري رحمه الله "باب القصاص بَيْن الرِّجالِ والنِّساءِ في الجرَاحَاتِ" وقال أهل العلمِ: يُقْتَل الرجل بالمرأة.
ثم قال: ويذكَر عن عمر: "تُقادُ المرأة مِنَ الرَّجُلِ في كل عمدٍ يَبْلُغُ نفسه فما دونها مِنَ الجراحِ"(1).
وبهِ قال عُمر بن عبدِ العَزيز وإِبْرَاهيمُ وأبو الزِّنادِ عَن أصحَابه (2).
وَجَرَحتْ أخْتُ الرُّبيع إِنساناً فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "القِصاصُ"(3).
(1) وصله سعيد بن منصور من طريق النخعي، قال: كان فيما جاء به عروة البارقي إِلى شريح من عند عمر قال: جرح الرجال والنساء والأثر به سواء. وسنده صحيح، وانظر "مختصر البخاري"(4/ 224).
(2)
أما أثر عمر؛ فوصَله ابن أبي شيبه بسند صحيح عنه نحوه، وأما أثر إِبراهيم؛ وهو النخعي؛ فتقدم في أثر عمر الذي قبله، وأما أثر أبي الزناد؛ فوصله البيهقي بسند جيد عنه، "المصدر نفسه".
(3)
وصله مسلم في "صحيحه" قال شيخنا رحمه الله في "مختصر البخاري"(4/ 224) والراجح: "أن هذه القصة هي غير قصة الربيع نفسها المتقدمة في "الصلح" (ج2/برقم 1213) [أي في "صحيح البخاري"] لتغايرهما من وجوه" انتهى.
ولعلها القصة نفسها انظر "صحيح النسائي" برقم (4428) من حديث أنس أن أُخت الرّبيع أم حارثة جرحت إِنساناً؛ فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وساق الحديث نفسه.
4 -
أن لا يكون أباً للمقتول ولا أُمّاً؛ فلا يُقتَل الوالد بولده ولا الأمّ بولدها.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد الوالد بالولد"(1).
وعن عمرو بن شعيب أنّ أبا قتادة، رجل من بني مُدْلِج، قَتَل ابنه، فأخذ منه عمر مائة من الإبل، ثلاثين حِقّة (2)، وثلاثين جَذَعَة (3)، وأربعين خَلِفَةً (4).
فقال: أين أخو المقتول؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس لقاتلٍ ميراث"(5).
وأما الأمّ فلأنها أولى بالبِرّ كما قال بعض العلماء؛ فلا قِصاص عليها في قَتْل ولدها.
وفي هذه الحالة يدفع الأب الدية للورثة، ويُستثنى هو منها، وكذا الأمّ تدفع الديَة إِنْ قتلت، وتُستثنى منها؛ فلا تأخُذ شيئاً.
(1) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي "صحيح سنن الترمذي"(1129)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(2157) وغيرهم، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(2214).
(2)
حِقّة: هو من الإِبل ما دخل في السّنة الرابعة إلى آخرها، وسُميَ بذلك؛ لأنه استحق الركوب والتحميل. "النهاية".
(3)
جَذَعَة: أصل الجذع من أسنان الدوابّ، وهو ما كان منها شاباً فتيّاً. وهو في الإبل ما دخل السنة الخامسة. "النهاية".
(4)
خَلِفَةً: الحامل من النُّوق، وقد خَلِفت: إذا حَملت. "النهاية".
(5)
أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(2141)، وانظر "الإِرواء"(1670، 1671).
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "نُحِلت لرجل من بني مدلج جارية، فأصاب منها ابناً، فكان يستخدمها، فلما شبّ الغلام دعاها يوماً، فقال: اصنعي كذا وكذا، فقال: لا تأتيك، حتى متى تستأمي أمي (1)؟!
قال: فغضب، فحذفَه بسيفه، فأصاب رجله، فنزف الغلام فمات.
فانطلق في رهطٍ من قومه إِلى عمر رضي الله عنه فقال: يا عدو نفسه أنت الذي قتلت ابنك؟! لولا أنيّ سمْعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد الأب من ابنه" لقتلتك، هلم دِيَته.
قال فأتاه بعشرين أو ثلاثين ومائة بعير، قال: فخيّر منها مائة، فدفَعهَا إِلى ورثته، وتَرَك أباه" (2).
5 -
أن يكون القاتل مختاراً فإِنّ الإِكراه يسلبه الإِرادة، ولا مسؤولية على من فقَد إِرادته.
وقد تقدَّم هذا في أكثر من مسألة، وإِذا أَمَر مكلّفٌ غيرَ مكلفٍ بأن يقتل غيره، مثل الصغير والمجنون، فالقِصاص على الآخر، لأن المباشِر للقتل آلة في يده، فلا يجب القِصاص عليه، وإِنّما يجب على المتسبب.
(1) تستأمي أمي: أي: تسترقّها.
(2)
أخرجه ابن الجارود والبيهقي بهذا التمام، والدارقطني من طُرُق، وقال شيخنا رحمه الله:"وهذا إِسناد جيد، رجاله كلهم ثقات، وفي عمرو بن أبي قيس كلام يسير لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن. وقد ذكر الحافظ الزيلعي عن البيهقي أنّه قال: "وهذا إِسنادٌ صحيح" ولعلّ هذا في كتابه "المعرفة" فإِنّي لم أره في "السنن".
وقال الحافظ في "التلخيص": وصحح البيهقي سنده؛ لأنّ رواته ثقات. وانظر "الإِرواء"(7/ 269).