الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففي هذا الحديث مشروعية الجلد في غير الحدود -أي: التعزير-.
هل يشرع الجلد في التعزير فوق عشر جلدات
؟
في الحديث المتقدّم بيان الاقتصار على عشر جلدات في غير الحدود.
قال الإِمام النووي رحمه الله: "اختلف العلماء في التعزير؛ هل يقتصر فيه على عشرة أسواط فما دونها، ولا تجوز الزيادة؛ أَم تجوز الزيادة؟ فقال أحمد بن حنبل، وأشهب المالكي، وبعض أصحابنا: لا تجوز الزيادة على عشرة أسواط.
وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ إِلى جواز الزيادة
…
" (1).
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح"(12/ 178): "وقد اختلف السلف في مدلول هذا الحديث، فأخَذ بظاهره الليث وأحمد -في المشهور- عنه وإسحاق وبعض الشافعية.
وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على العشر، ثم اختلفوا، فقال الشافعي: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحدّ الحر أو العبد؟ قولان، وفي قولٍ أو وجه يستنبط كل تعزير من جنس حدّه، ولا يجاوزه، وهو مقتضى قول الأوزاعي:"لا يبلغ به الحدّ" ولم يفصل.
وقال الباقون: هو إِلى رأي الإِمام بالغاً ما بلغ، وهو اختيار أبي ثور.
وعن عمر أنه كتب إِلى أبي موسى: "لا تجلد في التعزير أكثر من عشرين"
(1) انظر "شرح النووي"(11/ 221).
وعن عثمان ثلاثين، وعن عمر أنه بلغ بالسوط مائة، وكذا عن ابن مسعود وعن مالك وأبي ثور وعطاء: لا يعزر إِلا من تكرر منه ومَن وقع منه مرة واحدة معصية لا حدّ فيها فلا يُعزَّر، وعن أبي حنيفة لا يبلغ أربعين، وعن ابن أبي ليلى وأبي يوسف لا يزاد على خمس وتسعين جلدة.
وفي رواية عن مالك وأبي يوسف لا يبلغ ثمانين، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها ما تقدم، ومنها قصره على الجلد وأمّا الضرب بالعصا مثلاً وباليد فتجوز الزيادة لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الأصطخري من الشافعية وكأنه لم يقِف على الرواية الواردة بلفظ الضرب، ومنها أنه منسوخ دلّ على نسخه إِجماع الصحابة.
ورُدّ بأنه قال به بعض التابعين، وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار، ومنها معارضة الحديث بما هو أقوى منه وهو الإِجماع على أن التعزير يخالف الحدود وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها؛ فيصير مثل الحد، وبالإِجماع على أن التعزير موكول إِلى رأي الإِمام فيما يرجع إِلى التشديد والتخفيف، لا من حيث العدد، لأن التعزير شرع للردع ففي الناس من يردعه الكلام ومنهم من لا يردعه الضرب الشديد، فلذلك كان تعزير كلّ أحد بحسبه.
وتُعُقِّب بأنّ الحدّ لا يزاد فيه، ولا ينقص فاختلفا، وبأن التخفيف والتشديد مُسلّم، لكن مع مراعاة العدد المذكور، وبأن الردع لا يراعى في الأفراد بدليل أن من الناس من لا يردعه الحدّ
…
".
وجاء في "فيض القدير"(6/ 446): "يعني لا يُزاد على عشْرة أسواط بل
بالأيدي والنعال أو الأولى ذلك، فتجوز الزيادة إِلى ما دون الحد بقدْر الجرم عند الشافعي وأبي حنيفة.
أخذ أحمد بظاهر الخبر؛ فمنع بلوغ التعزير فوقها، واختاره كثير من الشافعية، وقالوا: لو بلغ الشافعي لقال به، لكن يردّه نقْل إِمامهم الرافعي إِنه منسوخ محتجّاً بما منه عمل الصحابة، بخلافه مع إِقرار الباقين.
ونُوزع بما لا يُجدي، ونقَل المؤلف عن المالكية؛ أنّ الحديث مختص بزمن المصطفى صلى الله عليه وسلم "لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر.
قال القرطبي في "شرح مسلم": ومشهور مذهب مالك أنّ ذلك موكول إِلى رأي الإِمام بحسب ما يراه أليق بالجاني؛ وإن زاد على أقصى الحدود، قال: والحديث خرج على أغلب ما يحتاج إِليه في ذلك الزمان" انتهى.
وقد وردَ بعض الآثار عن السلف في الزيادة على عشرة أسواط:
فعن داود عن سعيد بن المسيب: "في جارية كانت بين رجُلين؛ فوقَع عليها أحدهما (1)؟
قال: يضرب تسعةً وتسعين سوطاً" (2).
وعن عمير بن نمير قال: "سُئل ابن عمر رضي الله عنهما عن جاريةٍ؛
(1) أي سُئل ما حكمه؟
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة وصحح إسناده شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(2398).
كانت بين رجلين؛ فوقَع عليها أحدهما؟
قال: ليس عليه حدّ هو خائن، يُقوّم عليه قيمة، ويأخذها" (1).
وعن عطاء بن مروان عن أبيه قال: "أُتيَ عليٌّ رضي الله عنه بالنّجاشي قد شرب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثمّ أمَر به إِلى السّجن، ثمّ أخرجه من الغد فضربه عشرين، ثمّ قال: إِنّما جَلْدتك هذه العشرين؛ لإِفطارك في رمضان، وجَرأتك على الله"(2).
والمترجّح لديّ هو التمسُّك بالنصّ، ولكن قد ثبَت عن النبي صلى الله عليه وسلم التعزير بالقتل؛ لمن شرب الخمر في المرّة الرابعة (3).
وورَد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم الزيادة على عشرة جلدات، فهذا يقوّي أن الإِمام موكولٌ بحسب ما يراه أليق بالجاني.
ولا نحمل ما فعَلَه بعض الصحابة رضي الله عنهم في الزيادة؛ إلَاّ أَنهم استفادوه من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجمع بين أَحاديثه صلى الله عليه وسلم؛ لدرء المفاسد، وردع الجاني، وتحقيق المصالح. والله -تعالى- أعلم.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة، وقال شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(8/ 57) ورجاله ثقات رجال الشيخين غير عمير بن نمير، أورده ابن حبان في "الثقات" (1/ 172) وقال: "
…
أبو وَبَرة الهمداني، مِن أهل الكوفة، يروي عن ابن عمر، روى عنه إِسماعيل بن خالد وموسى الصغير".
(2)
أخرجه الطحاوي، وقال شيخنا رحمه الله في "الإِرواء" (2399): "وإسناده حسن أو قريب من ذلك
…
".
(3)
وسيأتي - إن شاء الله تعالى- (باب التعزير في حالات مخصوصة).