الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجائفة: الطعنة التي تَصل إِلى الجوف، والمراد بالجوف هنا كل ما له قوة محيلة كالبطن والدماغ.
المنقِّلة: هي التي تخرُج منها صغار العظام وتنتقل عن أماكنها. وقيل: التي تُنقِّل العظم، أي: تَكْسِره. كذا في "النهاية".
قال أبو الحسن السندي: "وإنما انتفى القِصاص لعسر ضبطه"(1).
أقول: في قوله -تعالى-: {فمن تصدَّق به فهو كفّارة له} بيان أجر من يتنازل عن القِصاص.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجلٍ يُجرح في جسده جراحة، فيتصدق بها؛ إِلا كَفّر الله عنه مِثل ما تصدّق به"(2).
قال في "فيض القدير": "يعني إِذا جنى إِنسان على آخر فقلع سِنّه أو قطع يده مثلاً، فعفا المستحقّ عن الجاني لوجه الله؛ نال هذا الثواب".
القِصاص في اللطمة والضربة واللكز والسبِّ:
مذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين أنّ القِصاص ثابت في ذلك كلّه؛ وشرطُ ذلك أن يكون اللطمُ والضرب أو السبّ المراد إِيقاعه بالجاني؛ مساوياً لِلَطْم وضرب وسبِّ المقتصّ، أو قريباً من ذلك، دون تعمُّد الزيادة.
(1) انظر "شرح سنن ابن ماجه"(2/ 141) للسندي -رحمه الله تعالى- و"الصحيحة"(5/ 223) لمعرفة غريب الحديث -إِن شئت-.
(2)
أخرجه أحمد بإِسناد صحيح، وانظر "الصحيحة"(2273).
وجاء في "مجموع الفتاوى"(34/ 162): "وسئل رحمه الله عن الرجل يلطِم الرجل أو يكلمه، أو يسبّه؛ هل يجوز أن يُفعَل به كما فعَل؟
فأجاب: وأمّا القِصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك؛ فمذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين؛ أنّ القِصاص ثابت في ذلك كلّه، وهو المنصوص عن أحمد في رواية إِسماعيل بن سعيد الشالنجي، وذهب كثير من الفقهاء؛ إِلى أنه لا يشرع في ذلك قِصاص؛ لأنّ المساواة فيه متعذرة في الغالب.
وهذا قول كثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ والأول أصحّ؛ فإِن سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم مضَت بالقِصاص في ذلك وكذلك سُنّة الخلفاء الراشدين، وقد قال -تعالى-:{وجزاءُ سيئةٍ سيئة مِثلها} (1).
وقال -تعالى-: {فمن اعتدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيه بمثْل ما اعْتَدى عَلَيْكُم} (2) ونحو ذلك.
وأمّا قول القائل: إِنّ المماثلة في هذه الجناية متعذرة. فيقال: لا بدّ لهذه الجناية من عقوبة: إِمّا قِصاص، وإِمّا تعزير، فإِذا جوّز أن يُعزر تعزيراً غير مضبوط الجنس والقدر؛ فلأن يعاقب إِلى ما هو أقرب إِلى الضبط من ذلك أولى وأحرى. والعدل في القِصاص مُعتَبر بحسب الإِمكان.
ومن المعلوم أن الضارب إِذا ضرب ضربة مثل ضربته أو قريباً منها كان هذا أقرب إِلى العدل من أن يُعزَّر بالضرب بالسوط؛ فالذي يمنَع القِصاص في ذلك
(1) الشورى: 40.
(2)
البقرة: 194.
خوفاً من الظلم يبيح ما هو أعظم ظلماً مما فرّ منه. فعُلم أنما جاءت به السُّنة أعدل وأمثل.
وكذلك له أن يسبّه كما يسبّه: مثل أن يلعنه كما يلعنه. أو يقول: قبّحك الله. فيقول: قبّحك الله. أو أخزاك الله فيقول: أخزاك الله. أو يقول: يا كلب! يا خنزير! فيقول: يا كلب! يا خنزير!
فأمّا إِذا كان مُحرّم الجنس مثل تكفيره أو الكذب عليه، لم يكن له أن يُكفّره ولا يكذب عليه. وإِذا لعَن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأنّ أباه لم يظلمه". انتهى.
قال الإمام البخاري رحمه الله: "وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعليّ وسُوَيد ابن مقرِّن مِنْ لطمة. وأقاد عمر من ضربةٍ بالدِّرة، وأقاد عليّ من ثلاثة أسواط واقتص شرَيحٌ من سوطٍ وخموش"(1).
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح"(12/ 227): قوله -أي الإِمام البخاري "وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعليّ وسُوَيد بن مقرِّن مِنْ لطمة. وأقاد عمر من ضربة بالدِّرة، وأقاد عليّ من ثلاثة أسواط واقتص شرَيحٌ من سوطٍ وخموش".
أمّا أثر أبي بكر -وهو الصِّدّيق-: فوصَله ابن أبي شيبة من طريق يحيى بن الحصين سمعت طارق بن شهاب يقول "لطم أبو بكر يوماً رجلاً لطمة، فقيل
(1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به (كتاب الديات باب 21 - إذا أصاب قومٌ من رجل
…
). وانظر -إن شئت- "مختصر البخاري"(4/ 226) لوصل التعليق، والحكم على إسناده.
ما رأينا كاليوم قط هنعة (1) ولطمة، فقال أبو بكر: إِن هذا أتاني ليستحملَني فحملتهُ فإِذا هو يتبعهم، فحلفت أن لا أحمله ثلاث مرات، ثمّ قال له: اقتصّ، فعفا الرجل".
وأمّا أثر ابن الزبير فوَصلَه ابن أبي شيبة ومسدد جميعاً عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار "أن ابن الزبير أقاد من لطمة".
وأمّا أثر علي الأول؛ فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ناجية أبي الحسن عن أبيه "أن علياً أتى في رجلٍ لطَم رجلاً، فقال للملطوم: اقتصّ".
وأما أثر سويد بن مُقرِّن فوصَلَه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه.
وأمّا أثر عمر فأخرجه في "الموطأ" عن عاصم بن عبيد الله عن عمر منقطعاً (2)، ووصله عبد الرزاق عن مالك عن عاصم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:"كنت مع عمر بطريق مكة فبال تحت شجرة، فناداه رجل فضربه بالدِّرَّة فقال: "عجلت عليّ، فأعطاه المِخْفقة (3) وقال: اقتصّ، فأبى، فقال: لتفعلن، قال: فإِني أغفرها".
وأمّا أثر علي الثاني فأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمرو عن عبد الله بن مَعْقِل -بكسر القاف- قال: "كنت عند عليّ
(1) جاء في "تاج العروس": الهنَع انحناء في القامَة، وفي "الصحاح" تطامُنٌ في عُنق البعير؛ فلعلّها تعني الذّل. والله أعلم.
(2)
وقال شيخنا رحمه الله في "مختصر البخاري"(4/ 226): وصله مالك وعبد الرزاق بسند ضعيف عنه.
(3)
ما يضرَبُ به من سوطٍ ونحوه.
فجاءه رجل فسارَّه فقال: يا قنبر اخرج فاجلد هذا، فجاء المجلود فقال: إنه زاد عليّ ثلاثة أسواط، فقال: صدَق.
قال: خذ السوط فاجلده ثلاثة أسواط ثم قال: يا قنبر إِذا جلدت فلا تتعد الحدود".
وأمّا أثر شُريح فوصَله ابن سعد وسعيد بن منصور من طريق إِبراهيم النخعي قال: "جاء رجل إِلى شريح فقال: اقدني من جلْوازك (1)، فسأله فقال: ازدحموا عليك فضربته سوطاً. فأقاده منه".
ومن طريق ابن سيرين قال: اختصم إِليه -يعني: شريحاً- عبدٌ جَرَح حرّاً فقال: إِنْ شاء اقتص منه.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق إسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة، ومن وجه آخر عن أبي إِسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة وخُموش (2).
وقال الليث وابن القاسِم: "يقاد من الضرب بالسوط وغيره؛ إِلا اللطمة في العين؛ ففيها العقوبة خشيةً على العين". انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المُسْتَبّان ما قالا؛ فعلى البادئ، ما لم يعتَدِ المظلوم"(3).
(المُسْتَبان ما قالا): جاء في "العون"(13/ 238): "المُسْتَبان تثنية
(1) أي: شرطيِّك.
(2)
الخُموش -بضم المعجمة- الخدوش وزنه ومعناه، والخماشة: ما ليس له أَرْش معلوم من الجراحة. "الفتح".
(3)
أخرجه مسلم (2587).
مستبّ وهما المتشاتمان اللذان يشتم كلّ منهما الآخر.
(ما قالا) أي: إِثم قولهما من السبّ والشتم.
(فعلى البادئ): أي: على الذي بدأ في السبّ، لأنه السبب لتلك المخاصمة.
قال في "اللمعات": أما إِثم ما قاله البادئ فظاهر، وأمّا إِثم الآخر فلكونه الذي حمَله على السبّ وظلمه".
(ما لم يعتدِ المظلوم): أي: يتجاوز الحدّ؛ بأن سبّه أكثر وأفحش منه، أمّا إِذا اعتدى كان إِثم ما اعتدى عليه، والباقي على البادي؛ كذا في "اللمعات".
والحاصل إِذا سبَّ كلّ واحد الآخر؛ فإِثم ما قالا على الذي بدأ السبّ، وهذا إِذا لم يتعدّ ويتجاوز الحدّ، والله أعلم.
قال النووي (16/ 141) -بحذف وتصرف يسيرين-: "معناه أنّ إِثم السباب الواقع من اثنين مختصٌ بالبادئ منهما كلّه، إلَاّ أن يتجاوز الثاني قدْر الانتصار فيقول للبادئ أكثر مِمّا قال له، وفي هذا جواز الانتصار ولا خلاف في جوازه.
وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، قال الله -تعالى-:{ولَمَنِ انتَصَر بعْدَ ظُلْمه فَأولئكَ مَا عليْهم مِن سَبيلٍ} (1) وقال -تعالى-: {والَّذين إذا أصَابهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصرون} (2).
(1) الشورى: 41.
(2)
الشورى: 39.
ومع هذا فالصبر والعفو أفضل، قال الله تعالى {ولمَن صَبَرَ وغَفَر إِنّ ذلك لمِنْ عَزْمِ الأمُورِ} (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم:"ما زاد الله عبداً بعفو إِلا عزّاً"(2).
واعلم أن سِباب المسلم بغير حقّ حرام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سِباب المسلم فسوق".
ولا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلَاّ بمِثل ما سبّه، ما لم يكن كَذباً أو قذفاً أو سباً لأسلافه، فمِن صور المباح أن ينتصر بيا (3) ظالم، أو جافي، أو نحوه، ذلك لأنّه لا يكاد أحد ينفكّ من هذه الأوصاف.
قالوا: وإِذا انتصَر المسبوب استوفى ظلامته وبرئ الأول من حقّه، وبقي عليه إِثم الابتداء أو الإِثم المستحقّ لله تعالى
…
".
جاء في "إِكمال الإِكمال"(8/ 544): "ما لم يتعدّ: أي يتجاوز، فلأنّه إِنّما أُبيح له أن يَرُدّ مِثل ما قيل له؛ لقوله تعالى:{وإِنْ عاقبتُم فعاقبِوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتُم لهو خيرٌ للصابرين} (4) وقوله تعالى: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مِثلها} (5).
والعداء في الردّ بالتكرار مِثل أن يقول البادئ: يا كلب فيردّ عليه مرّتين،
(1) الشورى: 43.
(2)
أخرجه مسلم (2588).
(3)
أي أن يقول: يا ظالم
…
(4)
النحل: 126.
(5)
الشورى: 40.
وبأن يردّ بأفحش كما لو قيل له: يا كلب فقال له: أنت خنزيز.
وكما لو سبّه البادئ فسبّ الراد آباء البادئ وكان ذلك عداء؛ لأنّه سبّ من لم يجْن عليه، وكانت هذه المذكورات عداءً؛ لأنَّ الانتصار إِنّما هو من باب القِصاص، والقِصاص إِنما يكون بالمِثل للآيتين السابقتين".
والخلاصة: إِنّ إِثم السبّ والشتم الصادر من المسْتبّين المشاتمين على من بَدأَ لأنّه السبب في ذلك، ما لم يعْتد المظلوم ويتجاوز الحدّ؛ بأن يسبّه أكثر وأفحش ففيه جواز السب والشتم بالشرط المذكور، والعفو أفضل.
ويُحمَل قوله صلى الله عليه وسلم: "المستبّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان"(1) على الاعتداء في القِصاص.
وتجاوز الحدّ، ومقابلة المعصية بمثلها أو أكثر؛ فقد تقدم أن المعصية لا تقابَل بالمعصية، وهنا قال صلى الله عليه وسلم:"يتهاتران" أي: يتقاولان ويتقابحان في القول من الهِتر -وهو الباطل والسَّقط من الكلام، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً:"يتكاذبان" وتقدّم القول بتحريمه. والله -تعالى- أعلم.
وفي الحديث: "لَيُّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته (2) "(3).
(1) انظر "صحيح الأدب المفرد"(330).
(2)
أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود"(3086)، وابن ماجه، "صحيح سنن ابن ماجه"(1970)، وغيرهما. وانظر "الإرواء"(1434) ورواه البخاري معلّقاً "كتاب الاستقراض"(باب لصاحب الحقّ مقال).
(3)
قال ابن المبارك: "يُحِلّ عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له".
ليّ الواجد: أي مطلق الغنى، والليّ بالفتح المطل، وأصله لوى فأُدغمت الواو في الياء. =