الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا "أصلٌ" ينبغي معرفته فإِنه مهمّ في هذا الباب؛ فإِنّ كثيراً ممن تكلم في "مسائل الإِيمان والكفر" -لتكفير أهل الأهواء- لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أنّ الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإِجماع المعلوم؛ بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإِسلام.
ومن تدبر هذا، علم أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمناً مخطئاً جاهلاً ضالاًّ عن بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منافقاً زنديقاً يُظهِر خلاف ما يبطن.
وقال رحمه الله (11/ 405): "وَمن جحَد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، أو جحَد تحريمَ بعض المحرمات الظاهرة المتواترة: كالفواحش، والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حِلّ بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح. فهو كافر مرتد، يُستتاب فإِنْ تاب وإلا قُتل، وإِنْ أضمَر ذلك كان زنديقاً منافقاً، لا يستتاب عند أكثر العلماء؛ بل يُقتل بلا استتابة، إِذا ظهر ذلك منه". انتهى.
هل يُقتل الساحر
؟
لا شكَّ أنَّ السحر من الموبقات والمهلكات.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هنَّ؟ قال: الشِّرك بالله، والسِّحر، وقتل النَّفس التي حرَّم الله إِلا بالحقّ وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتَولِّي يوم الزَّحف،
وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" (1).
وقد اختلف العلماء في حدِّ الساحر؛ وقد جاء في "المرقاة"(7/ 116): "في شرح السنَّة: اختلفوا في قتْله، فذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إِلى أنَّه يُقْتل.
ورُويَ عن حفْصة: أنَّ جارية لها سَحَرَتْها فَأَمَرَت بها فقتلتْها، ورُوي أنَّ عمر رضي الله عنه كتَب:"اقتلوا كلّ ساحر وساحرة". قال الرَّاوي: فقتلنا ثلاث سواحر (2).
وعند الشافعي: يُقتل إِنْ كان ما يَسحر به كُفراً إِن لم يتب، فإِن لم يبلغ عمله الكفر فلا يُقتل، وتعليم السحر ليس كفراً عنده إِلا أن يَعتقد قلْب الأعيان.
قال القاضي: الساحر إِذا لم يتمّ سحرُه إِلا بدعوة كوكبٍ أو شيء يوجب كفراً؛ يجب قتْله، لأنَّه استعان في تحصيله بالتَّقرُّب إِلى الشيطان مما لا يستقِلّ به الإِنسان، وذلك لا يتسبَّب إِلا لمن يُناسبُه في الشرارة وخُبث النَّفس".
وعن عمرو بن دينار، سمع بجالة يحدِّث عمرو بن أوس وأبا الشعثاء، قال: "كنت كاتباً لِجَزْء بن معاوية، عمّ الأحنف بن قيس، إِذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسَنَة: اقتُلُوا كلَّ ساحر، وفَرِّقوا بين كل ذي مَحْرَم من المجوس،
(1) أخرجه البخاري (6857)، ومسلم (89)، وتقدّم.
(2)
وسيأتي تخريجه -إن شاء الله تعالى-.
وانهوهم عن الزَّمْزَمَةِ (1).
فقَتَلْنا في يوم ثلاثة سواحر، وفرَّقنا بين كل رجُل من المجوس وحريمه في كتاب الله، وصنَعَ طعاماً كثيراً، فدعاهم فعرض السَّيف على فَخذه، فأكلوا ولم يُزمزموا
…
" (2).
أمَّا حديث: "حدُّ السَّاحر ضرْبةٌ بالسَّيف" فضعيف (3). والصحيح وقفه على جندب رضي الله عنه كما قال الترمذي وغيره.
قال شيخنا رحمه الله: "
…
وقد أخرجه الحاكم (4/ 361) من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن: "أنَّ أميراً من أمراء الكوفة دعا ساحرًا يلعب بين يدي الناس فبلغ جندب، فأقبل بسيفه، واشتمل عليه، فلمَّا رآه ضربه بسيفه، فتفرَّق الناس عنه، فقال: أيها الناس لن تراعوا، إِنَّما أردت الساحر فأخَذَه الأمير فحبَسه.
فبلغ ذلك سلمان، فقال: بئس ما صَنَعا! لم يكن ينبغي لهذا وهو إِمام يؤتمّ به يدعو ساحراً يلعب بين يديه، ولا ينبغي لهذا أن يعاتب أميره بالسيف".
قلت: وهذا إِسناد موقوف صحيح إِلى الحسن وقد توبع، فقال هشيم:
(1) الزَّمْزَمَة: هي كلامٌ يقولونه عند أكْلهم بصوت خفي. "النِّهاية".
(2)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(2624).
(3)
أخرجه الترمذي والدارقطني والحاكم وغيرهم، قال الترمذي: لا نعرفه معروفاً إِلا من هذا الوجه، وإِسماعيل بن مسلم المكِّي يُضعّف في الحديث،
…
وانظر "الضعيفة"(1446).
أنبأنا خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي: "أنَّ ساحراً كان يلعب عند الوليد ابن عقبة، فكان يأخذ سيفه فيذبح نفسه، ولا يضره، فقام جندب إِلى السيف فأخذه فضرب عنقه، ثم قرأ: {أَفتأْتُونَ السِّحْرَ وأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} "(1).
وهذا إِسناد صحيح موقوف، صرح فيه هشيم بالتحديث.
وله طريق أخرى عند البيهقي عن ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة عن أبي الأسود: "أنَّ الوليد بن عقبة كان بالعراق يلعب بين يديه ساحر، وكان يضرب رأس الرجُل، ثمّ يصيح به، فيقوم خارجاً، فيرتدّ إِليه رأسه.
فقال الناس: سبحان الله، يحيي الموتى! ورآه رجُل من صالح المهاجرين، فنظر إِليه.
فلمَّا كان من الغد، اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجُل سيفه فضرب عنقه، فقال: إِن كان صادقاً فليحيي نفسه!
وأمر به الوليد ديناراً صاحب السجن -وكان رجلاً صالحاً- فسجنه، فأعجبه نحو الرجُل، فقال: أتستطيع أن تهرب؟ قال: نعم، قال: فاخرج لا يسألني الله عنك أبداً".
قلت (2): وهذا إِسناد صحيح إِن كان أبو الأسود أدرك القصَّة فإِنَّه تابعي صغير، واسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة.
(1) أخرجه الدارقطني وعنه البيهقي وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(4/ 19/ 1 و2) والسياق له من طرق عن هشيم به.
(2)
الكلام لشيخنا رحمه الله.
قلت (1): ومثل هذا الساحر المقتول، هؤلاء الطرقيَّة الذين يتظاهرون بأنَّهم من أولياء الله، فيضربون أنفسهم بالسيف والشيش، وبعضه سحر وتخييل ولا حقيقة له، وبعضه تجارب وتمارين، يستطيعه كل إِنسان من مؤمن أو كافر إِذا تمرّس عليه وكان قويّ القلب، ومن ذلك مسُّهم النار بأفواههم وأيديهم، ودخولهم التنّور.
ولِي مع أحدهم في حلب موقف تظاهر فيه أنَّه من هؤلاء، وأنَّه يطعن نفسه بالشيش، ويقبض على الجمر فنصحْته، وكشفْت له عن الحقيقة، وهددته بالحرق إِن لم يرجع عن هذه الدّعوى الفارغة! فلم يتراجع.
فقمت إِليه وقرَّبت النار من عمامته مهدِّداً، فلمَّا أصرَّ أحرقْتُها عليه، وهو ينظر! ثمَّ أطفأتها خشية أن يحترق هو من تحتها معانداً.
وظنِّي أنَّ جندباً رضي الله عنه لو رأى هؤلاء لقتلهم بسيفه كما فعل بذلك الساحر {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} ". انتهى.
وقال الإِمام الترمذي رحمه الله عقب أثر جندب رضي الله عنه السابق: "والعمل على هذا [أي: الضَّرب بالسيف] عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول مالك بن أنس وقال الشافعي رحمه الله: إِنَّما يُقتل الساحر إِذا كان يعمل في سحره ما يبلُغ به الكفر، فإِذا عمل عملاً دون الكفر؛ لم نَرَ عليه قتلا".
(1) الكلام لشيخنا رحمه الله.