الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِشقصاً (1) " (2).
وذكر النسائي رحمه الله تحت (باب مَن اقتصّ وأَخذ حقّه دون السلطان) أثر (3) أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلّي إِلى شيء يَستُرهُ منَ الناسِ، فأَرادَ شابٌّ من بني أبي مُعَيط أن يجتازَ بينَ يدَيِه، فدفَعَ أبو سعيد في صدرهِ، فنظرَ الشابُّ فلم يَجِد مَساغاً إِلا بين يدَيه، فعادَ ليَجْتازَ؛ فدفعه أبو سعيد أشدَّ منَ الأولى، فنالَ مِن أبي سعيدٍ.
ثمَّ دخلَ على مَروَانَ فشكا إِليهِ ما لَقيَ من أبي سعيدٍ، ودخل أبو سعيد خَلفهُ على مَروانَ، فقال: ما لَكَ ولابنِ أخيكَ يا أبا سعيد؟
قال: سَمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذا صلى أحدُكم إِلى شيء يَستُرهُ منَ الناسِ، فأَرادَ أحدٌ أن يجتازَ بينَ يدَيه فليَدْفعْه. فإِنْ أبى فليُقاتلْهُ فإِنمَّا هو شيطانٌ"(4).
القِصاص في الأطراف والجروح:
ويثبت القِصاص في الأطراف ونحوها والجروح مع الإمكان؛ لقوله -تعالى-: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعينَ بالعينِ والأنف بالأنف
(1) المشقص: قال جمعٌ من الشُّراح: "هو سَهْم ذو نصلٍ عريض" والنّصل: حديدة السهم.
(2)
أخرجه البخاري (6889)، ومسلم (2157) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
انظر "صحيح سنن النسائي"(4518).
(4)
أخرجه البخاري (509)، ومسلم (505).
والسنّ بالسنّ والجروح قِصاص فمنْ تصدّق به فهو كفّارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (1).
قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": "وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إِلى أنّ شرعَ مَنْ قبلنا شرع لنا؛ إِذا حُكِى مُقرّراً ولم يُنسَخ؛ كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إِسحاق الإِسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة".
وقال رحمه الله أيضاً في "تفسيره": "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس، قال: تقتل النفس بالنفس، وتُفقَأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتُنزَع السنّ بالسنّ وتُقتَصّ الجراح بالجراح".
وفي حديث أنس رضي الله عنه أنّ الرّبيِّع -وهي ابنةُ النّضر- كسرَت ثَنيَّة جاريةٍ، فطلبوا الأرشَ (2) وطلبوا العفو، فأبَوا. فأبَوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمَرهم بالقِصاص.
فقال أنس بن النّضر: أتُكسر ثَنيَّة (3) الرّبيِّع يا رسول الله؟ لا والذي بعَثَكَ بالحقّ لا تُكسر ثنيّتها. فقال: يا أنس كتابُ الله القِصاص. فرضي القوم وعَفوا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِن مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأَبرّه". زاد الفزاري
(1) المائدة: 45.
(2)
الأرش: الدِّية.
(3)
الثنية: إحدى الأسنان الأربع التي في مُقدّم الفم: ثنتان من فوق وثنتان من تحت.
عن حميد عن أنس "فرضيَ القوم وقَبِلوا الأرش"(1).
وعن أنس بن مالك قال: إِنما سَمَل (2) النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء (3).
وهو معنى قوله: {والجُرُوحَ قِصاص} وقد روي عن محمد بن سيرين قال: "إِنما فَعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا قبل أن تُنزل الحدود"(4).
ويُقيّد القِصاص في الأطراف والجروح بالإِمكان.
جاء في "المغني"(9/ 409): "وإِذا جرحه جرحاً يمكن الاقتصاص منه بلا حيف؛ اقتُصّ منه.
وجملة ذلك أنّ القِصاص يجري فيما دون النفس من الجروح إذا أمكنَ؛ للنصّ والإِجماع".
ثمّ استدل رحمه الله بقوله -تعالى-: {والجُرُوحَ قِصاص} ثمّ بحديث الرُّبَيِّع رضي الله عنها.
ثم قال رحمه الله: "وأجمع المسلمون على جريان القِصاص فيما دون النفس إِذا أمكن، ولأنّ ما دون النفس كالنفس في الحاجة إِلى حفظه بالقِصاص؛ فكان كالنفس في وجوبه" ثم قال رحمه الله "ويشترط لوجوب
(1) أخرجه البخاري (2703)، ومسلم (1675).
(2)
سَمَل: فقَأها وأذهب ما فيها.
(3)
أخرجه مسلم (1671)، وتقدّم.
(4)
أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي"(63).
القِصاص في الجروح ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يكون عمداً محضاً، فأمّا الخطأ فلا قِصاص فيه إِجماعاً، ولأن الخطأ لا يوجب القِصاص في النفس -وهي الأصل- ففيما دونها أولى.
ولا يجب بعمد الخطأ، وهو أن يقصد ضَرْبه بما لا يفضي إِلى ذلك غالباً، مثل أن يضربه بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القِصاص؛ لأنه شبه العمد، ولا يجب القِصاص إِلا بالعمد المحض، وقال أبو بكر: يجب به القِصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية.
الثاني: التكافؤ بين الجارح والمجروح وهو أن يكون الجاني يقاد من المجني عليه لو قتَلَه
…
فأما من لا يُقتَل بقتله فلا يُقتَص منه فيما دون النفس له كالمسلم مع الكافر
…
والأب مع ابنه؛ لأنه لا تُؤخَذُ نفسه بنفسه فلا يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه.
الثالث: إِمكات الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة؛ لأن الله -تعالى- قال: {وإِنْ عاقبتُم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وقال: {فمن اعتدى عَلَيْكم فاعْتَدوا عَلَيه بمثْل مَا اعْتَدى عَلَيْكُم} ولأنّ دم الجاني معصوم إِلا في قدر جنايته، فما زاد عليها يبقى على العصمة فيحرم استيفاؤه بعد الجناية؛ كتحريمه قبلها ومن ضرورة المنع من الزيادة المنع مع القِصاص؛ لأنها مِن لوازمه، فلا يمكن المنع منها إِلا بالمنع منه، وهذا لا خلاف فيه نعلمه.
وممن منَع القِصاص فيما دون الموضحة (1)؛ الحسن والشافعي وأبو عبيد وأصحابُ الرأي.
(1) وهي التي تُبدي وَضح العظم، أي بياضَه. "النهاية".
ومنَعه في العظام عمر بن عبد العزيز وعطاء والنخعي والزهري والحكم وابن شبرمة والثوري والشافعي وأصحاب الرأي.
وإِذا ثبت هذا؛ فإِن الجرح الذي يمكن استيفاؤه من غير زيادة؛ هو كل جرح ينتهي إِلى عظم؛ كالموضحة في الرأس والوجه.
ولا نعلم في جواز القِصاص في الموضحة -وهي كل جرح ينتهي إِلى العظم في الرأس والوجه- وذلك لأن الله -تعالى- نصَّ على القصاص في الجروح فلو لم يجب هاهنا لسقط حُكم الآية.
وفي معنى الموضحة؛ كل جرح ينتهي إِلى عظم فيما سوى الرأس والوجه؛ كالساعد والعضد والساق والفخذ في قول أكثر أهل العلم، وهو منصوص الشافعي. وقال بعض أصحابه: لا قِصاص فيها .... ".
قلت: يجب العمل بمقتضى عموم الآية {والجُرُوحَ قِصاص} في أي مكان من الجسم، إِذا أَمكن عدم الحيف أو الزيادة.
وجاء في "الروضة النديّة"(2/ 647): "وأمّا تقييد ذلك بالإِمكان، فلكون بعض الجروح قد يتعذر الاقتصاص فيها؛ كعدم إمكان الاقتصار على مِثل ما في المجنيّ عليه.
وخطاب الشرع محمول على الإِمكان، مِن دون مجاوزة للمقدار الكائن في المجنيّ عليه، فإِذا كان لا يمكن إِلا بمجاوزةٍ للمقدار، أو بمخاطرة وإضرار؛ فالأدلة الدّالة على تحريم دم المسلم، وتحريم الإِضرار به -بما هو خارج عن القِصاص- مُخصِّصة لدليل الاقتصاص.
قلت: [-أي: صاحب "الروضة النديّة"-] إن كلّ طَرَف له مَفْصِل
معلوم، فَقَطَعه ظالم من مَفْصِله من إِنسان اقتُص منه؛ كالإِصبع يقطعها من أصلها، أو اليد يقطعها من الكوع، أو من المرفق، أو الرِّجل يقطعها من المفصل؛ يُقتصّ منه.
وكذلك لو قلَع سِنّه، أو قطَع أنفه، أو أذنه، أو فَقأ عينه، أوجَبّ ذكَرَه، أو قطع أُنثيَيه؛ يُقتَصّ منه، وكذلك لو شَجَّه موضِحةً في رأسه أو وجهه؛ يُقتصّ منه.
ولو جرح رأسه دون المُوضِحة، أو جرح موضعاً آخر من بدنه، أو هشم العظم؛ فلا قَوَد فيه؛ لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة فيه.
وكذلك لو قَطَع يَده من نِصف الساعد؛ فليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع، وله أنْ يقتصّ من الكوع، ويأخذ حكومةً (1) لنصف الساعد، وعلى هذا أكثر أهل العِلم في الجملة، وفي التفاصيل لهم اختلاف".
وجاء في كتاب "الإِجماع" لابن المنذر (ص 172): "وأجمعوا على أن الموضحة فيها القِصاص إِذا كانت عمداً".
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قَودَ في المأمومةِ ولا الجائِفة ولا المنقّلة"(2).
المأمومة: الشَّجَّة التي بلغت أمّ الرأس؛ وهي الجلدة التي تجمع الدماغ.
(1) ما يحكُم فيه الحاكم من الجراحات التي ليس فيها دِيَةٌ مقدّرة، وسيأتي التفصيل إن شاء الله -تعالى-.
(2)
أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(2132) وأبو يعلى، وانظر "الصحيحة"(5/ 222).