الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعزير بالمقاطعة والامتناع عن الكلام:
ومن ذلك ما كان من شأن الثلاثة الذين خُلِّفوا:
عن كعب بن مالك رضي الله عنه يحدّث حين تخلّف عن غزوة تبوك: قال: "لم أتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةً غزاها، إلَاّ في غزوة تبوك
…
كان من خبري أنِّي لم أكنْ قطُّ أقوى ولا أيسر؛ حين تخلَّفْتُ عنه في تلك الغَزاة، والله ما اجتَمَعَتْ عندي قبله راحلتان قطُّ؛ حتى جمعتُها في تلك الغزوة.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة، إِلا ورَّى بغيرها (1)، حتى كانت تلك الغزوة؛ غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً (2) وعدوّاً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهَّبوا أُهبة (3) غزوِهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير (4)، ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد: الديوان).
قال كعب: فما رجلٌ يريد أن يتغيَّب؛ إلَاّ ظنَّ أنْ سيخفى له؛ ما لم يَنْزِلْ فيه وحْي الله.
(1) قال في "الفتح": "أي: أوهم غيرها، والتورية: أن يذكر لفظاً يحتمل معنيين، أحدهما أقرب من الآخر، فيوهم إرادة القريب، وهو يريد البعيد".
(2)
المفاز والمفازة: البريَّة القفْر.
(3)
تأهَّب: استعدَّ، والأهبة: الحرب عدَّتها وجمعها. "المختار".
(4)
في رواية لمسلم (2769): "وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بناس كثير، يزيدون على عشرة آلاف، ولا يجمعهم ديوان حافظ".
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثِّمار والظِّلال، وتجهَّز رسول الله والمسلمون معه، فطفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي؛ حتى اشتدَّ بالنَّاس الجِدُّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقْضِ مِن جَهازي شيئاً، فقلتُ: أتجهَز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقُهُم، فغدوْتُ بعد أن فَضَلوا لأتجهَّزَ، فرجعْتُ ولم أقْضِ شيئاً، ثم غَدَوْتُ، ثم رجَعْتُ ولم أقْضِ شيئاً.
فلم يَزَلْ بي حتى أسرعوا، وتفارطَ الغزو (1)، وهَمَمْتُ أنْ أرتَحِل فأدرِكهم -وليتني فعَلْت فلم يُقدَّر لي ذلك- فكنتُ إِذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطُفْتُ فيهم؛ أحزَنَني أنِّي لا أرى إِلا رجلاً مغموصاً (2) عليه النِّفاق، أو رجلاً ممَّن عذَرَ الله من الضُّعفاء.
قال كعب بن مالك: "فلمَّا بَلَغَني أنَّه توجَّه قافلاً (3)؛ حَضَرني همِّي، وطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكذب، وأقول: بماذا أخرُجُ من سَخَطه غداً؟ واستَعَنْتُ على ذلك بكلِّ ذي رأيٍ من أهلي، فلمَّا قيل: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلَّ قادماً؛ زاح عنِّي الباطل، وعرفْتُ أنِّي لن أخرجَ منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجْمَعْتُ صِدقَه.
(1) أي: فات وسبق.
(2)
أي: مطعوناً عليه في دينه، متَّهماً بالنَِّفاق، وقيل: معناه: مُستحقراً، تقول: غَمَصْتُ فلاناً: إِذا استحقرْته. "النهاية".
(3)
القفول: الرُّجوع من السَّفر.
وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إِذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ؛ بدأ بالمسجد، فيركعُ فيه ركعتين، ثم جلس للنَّاس، فلمَّا فعَل ذلك؛ جاءهُ المُخَلَّفون، فطفقوا يعتَذرون إِليه، ويحلفون له -وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً- فقَبِلَ منهُم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانِيَتَهُم، وبايعَهُم، واستغفرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إِلى الله.
فجئتهُ، فلمَّا سلَّمتُ عليه؛ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغْضَب، ثمّ قال: تعالَ. فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديِه، فقال لي: ما خَلَّفَكَ؟ ألمْ تكن قد ابتَعْتَ ظهركَ (1)؟ ".
فقلتُ: بلى؛ إِنِّي والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدُّنيا؛ لرأيتُ أن سأخرُجُ مِن سخطه بعُذرٍ، ولقد أُعطيتُ جَدلاً، ولكنِّي والله، لقد عَلمْت؛ لئن حدَّثْتُك اليوم حديث كَذِبٍ ترضى به عنِّي؛ ليوشِكنَّ الله أن يُسْخِطكَ عليَّ، ولئن حدَّثْتُك حديث صدقٍ تجِد عليَّ فيه (2)؛ إِنِّي لأرجو فيه عفو الله (3)، لا والله؛ ما كان لي مِن عُذرٍ؛ واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسر منِّي؛ حين تخلَّفْتُ عنك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا هذا؛ فقد صَدَقَ، فقُمْ حتى يقضي الله فيك، فقُمت
…
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -أيُّها الثلاثة- من بين مَن تخلَّف عنه، فاجتَنبَنا النَّاس، وتغيَّروا لنا، حتى تَنكَّرتْ في نفسي الأرض، فما هي
(1) اشتريت راحلتك.
(2)
أي: تغضب.
(3)
في "صحيح مسلم": "عقبى".
التي أعرف، فلبِثنا على ذلك خمسينَ ليلة.
فأمَّا صاحباي؛ فاسْتَكانا وقعدا في بيوتِهما يبكيان، وأمّا أنا؛ فكنتُ أشبَّ القوم وأجلَدَهُم، فكنتُ أخرجَ فأشهد الصَّلاة مع المسلمين، وأطوفُ في الأسواق، ولا يكلِّمني أحدٌ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلِّم عليه وهو في مجلسه بعدَ الصَّلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيهِ بردِّ السلام عليَّ أم لا؟ ثمَّ أصلِّي قريباً منه، فأسارقهُ النَّظر، فإِذا أقبَلْتُ على صلاتي؛ أقبَل إِليَّ، وإذا التَفَتُّ نحوَه؛ أعرَضَ عنِّي.
حتى إِذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس (1) مشيتُ حتى تسوَّرتُ (2) جِدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمِّي وأحبُّ النَّاس إِلىَّ، فسلَّمتُ عليه، فوالله؛ ما ردَّ عليَّ السَّلام.
فقلتُ: يا أبا قَتادة! أنشُدك بالله هل تعلمني أحبُّ الله ورسولَه؟ فسَكَت، فعُدْت له فنَشَدْتُه؟ فسكَتَ، فعُدْت له فنَشَدْتُه؟ فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضتْ عيناي، وتولَّيت حتى تسوَّرت الجدار
…
حتى إِذا مضتْ أربعون ليلة من الخمسين؛ إِذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إِنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أنْ تعتَزِل امرأتَكَ.
فقلتُ: أطلِّقُها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا؛ بل اعتَزلها ولا تقرَبْها، وأرسل إِلى صاحبيَّ مثلَ ذلك.
فقلتُ لامرأتي: الحَقي بأهلِك، فتكوني عندهم حتى يقضيَ الله في هذا
(1) أي: إِعراضهم.
(2)
أي: علوْت سور الدَّار.