الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توبةُ المحاربين قبْل القُدرة عليهم:
*إِذا تاب المحاربون المفسدون في الأرض، قبل القدرة عليهم، وتمكَّن الحاكم من القبض عليهم، فإنَّ الله يغفر لهم ما سلَفَ، ويرفع عنهم العقوبة الخاصّة بالحرابة؛ لقوله -تعالى-:{ذلكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدّنْيا وَلَهُم في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدروا عَلَيْهِم فَاعْلَمُوا أنَّ الله غَفورٌ رَحِيم} (1).
وإِنَّما كان ذلك كذلك؛ لأنَّ التوبة قبل القدرة عليهم والتَّمكُّن منهم دليل على يَقَظَة القلوب، والعزم على استئناف حياةٍ نظيفة، بعيدة عن الإِفساد، والمحاربة لله ورسوله، ولهذا شملهم عفو الله، وأسقط عنهم كلَّ حقّ من حقوقه، إِن كانوا قد ارتكبوا ما يستوجب العقوبة.
أمَّا حقوق العباد، فإِنَّها لا تسقط عنهم، وتكون العقوبة حينئذ ليست من قبيل الحرابة، وإِنما تكون من باب القِصاص.
[أقول: وفي ذلك أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقْدر عليه؛ لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدّ الذي أصابه"](2).
والأمر في ذلك يرجع إِلى المجني عليهم، لا إِلى الحاكم، فإِنْ كانوا قد قَتَلوا، سقط عنهم تحتم القتل، ولوليِّ الدَّم العفو أو القِصاص وإنْ كانوا قد قَتَلوا
(1) المائدة: 33 - 34.
(2)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(3675)، والنسائي "صحيح سنن النسائي"(3776)، وانظر "الإرواء"(8/ 93).
وأخَذوا المال، سقط الصَّلب، وتحتم القتل، وبقي القِصاص، وضمان المال.
وإِنْ كانوا قد أخذوا المال، سقط القطع، وأُخذِت الأموال منهم إِن كانت بأيديهم، وضمنوا قيمة ما استهلكوا؛ لأنَّ ذلك غَصْبٌ، فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إِلى أربابه، أو يجعله الحاكم عنده، حتى يعلم صاحبه؛ لأنَّ توبتهم لا تصح إِلا إِذا أعادوا الأموال المسلوبة إِلى أربابها.
فإِذا رأى أولو الأمر إِسقاط حقٍّ ماليٍّ عن المفسدين؛ مِن أجل المصلحة العامَّة، وجب أن يضمنوه من بيت المال* (1).
جاء في "المغني"(10/ 314): "فإِنْ تابوا من قبل أن يُقدَر عليهم؛ سقطت عنهم حدود الله -تعالى- وأخذوا بحقوق الآدميِّين من الأنفس والجراح والأموال؛ إِلا أن يُعفى لهم عنها.
لا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرَّأي وأبو ثور، والأصل في هذا قول الله -تعالى-:{إِلا الذينَ تَابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم فَاعْلَمُوا أنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القِصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدِّيَة لما لا قِصاص فيه.
فأمّا إِنْ تاب بعد القدرة عليه؛ لم يسقط عنه شيء من الحدود؛ لقول الله تعالى: {إِلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} فأوجب عليهم الحدّ ثم استثنى التائبين قبل القدرة، فمن عداهم يبقى على قضِيّة العموم، ولأنّه إِذا
(1) ما بين نجمتين من "فقه السنة"(3/ 253) -بتصرف-.
تاب قبل القدرة؛ فالظاهر أنها توبة إِخلاص، وبعدها الظاهر أنها تقية من إِقامة الحدّ عليه، ولأنّ في قبول قوبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة؛ ترغيباً في توبته والرجوع عن محاربته وإِفساده فناسَب ذلك الإِسقاط عنه وأما بعدها فلا حاجة إِلى ترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة".
وجاء في "تفسير ابن كثير": "وأمَّا المحاربون المسلمون فإِذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإِنَّه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرِجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء: ظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عَمَل الصحابة
…
".
وجاء في "الروضة الندية"(2/ 620): "أقول: الآية ليس فيها إِلا الإِشارة إِلى عفو الله ورحمته لمن تاب قبل القدرة. وليس فيها القطع بحصول المغفرة والرحمة لمن تاب!! ولو سُلِّم القطع فذلك في الذنوب التي أمْرها إِلى الله فيسقط بالتَّوبة الخطاب الأخروي والحد الذي شرعه الله.
وأمَّا الحقوق التي للآدميِّين من دم أو مال أو عرض؛ فليس في الآية ما يدل على سقوطها. ومن زعم أنَّ ثم دليلاً يدل على السقوط فما الدليل على هذا الزَّعم؟! ". انتهى.
أقول: إذا كان الشهيد يُغفر له كل شيء إِلا الدَّين، فكيف يُغفرَ للمحارب ما سَلَبَ من أموال وانْتهك مِن حُرُمات، فحقوق الآدميِّين معتبرة، وليس في الآية ما يدلّ على سقوطها.
ولكن توبة المحارب؛ تعني أنَّه اختار الدار الآخرة، ورضي أن يمضي فيه حُكْم الله -تعالى- ورأى أنَّ هذا خيرٌ له من المُضِيّ في الإفساد وعدم التوبة،