الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن عصر "الإيمان" إلى عصر "العقل" دون أن يفتقر إلى المرحلة المتوسطة التي احتاجت إليها المسيحية" اهـ
(1)
.
تحليل العبارة وتعيين الشبهة:
كل من سيد أحمد خان وأمير على نهج المنهج العقلي في معرفة عقيدة التوحيد إلا أن كلا منهما وصل إلى نتيجة تخالف ما وصله الآخر، فيرى سيد أحمد خان أن العقل البشري يمكن به الوصول إلى معرفة خالق الكون وذلك عند انعدام العلم لكثير من أسباب اختلاف هذا الكون، بينما يرى أمير علي أن عقيدة التوحيد هي العقيدة الوحيدة من بين عقائد الإسلام يأباها العقل الإنساني، إضافة إلى ما أثار إليه أمير على من شبهة هي: أن الإسلام انتقل من عصر القابلية إلى عصر الفاعلية ومن عصر الإيمان إلى عصر العقل، فيمكن لنا تحليل العبارات السابقة لتعيين الشبهة في النقاط التالية:
أولًا: عند عجز الإنسان عن معرفة كثير من أسباب اختلاف الكون ينسبها إلى وجود غير معلوم وهو الله.
ثانيًا: عقيدة التوحيد من الأمور التي يأبى قبولها العقل الإنساني.
ثالثًا: هناك مرحلتان مر بهما الإسلام مرحلة القابلية ومرحلة الفاعلية أو مرحلة الإيمان ومرحلة العقل.
أولًا: قول السيد:
عند عجز الإنسان عن معرفة كثير من الأسباب لاختلاف هذا الكون ينسبها إلى وجود غير معلوم وهو الله.
هذا الأصل قد أصله سيد أحمد خان لمعرفة ذات الله عز وجل بطريق العقل، ولكن التقلبات التي ذكرها السيد من الأمراض والأوبئة والمجاعة، وفصول الربيع والأيام الجميلة والصحة والعافية إلى غير ذلك من الأمور التي قد عرفت أسبابها، ونجد تفصيل
(1)
روح الإسلام لأمير على: 2/ 311.
ذلك في العلوم الحديثة مثل الجغرافية والفلكية والطبية، ولأن السيد هو نفسه يرى في منهجيته الجديدة المتأثرة بالاستشراق "أنه بعد أن ظهرت الاكتشافات العلمية الحديثة والمعارف الجديدة، تعين علينا أن لا نقبل شيئا إلا إذا عقلناه وجربناه في ضوء قوانين الطبيعة، فالعقل والطبيعة قوّتان متبادلتان فعالتان معًا في هذا المنهج" اهـ
(1)
.
وفي ضوء هذه المنهجية الخطيرة قد تقرر في نظر الباحثين الغربيين تاريخ فكرة الإله عند الإنسان من أن بدايته كان بتعدد الآلهة، حيث اعتقد الإنسان في كل تقلب لا يعرف سببه إلهًا ثم تقدم العلم وتطورت فكرة الإله من التعدد إلى التثليث ومن التثليث إلى التثنية (خالق الخير وخالق الشر) ثم إلى التوحيد وأخيرًا إلى الإلحاد.
وهذا ما حدث في أوربا الحديثة، يقول الدكتور محمود ماضي:"إن الصدام التقليدي بين الدين والعلم في أوربا، نتاج من نتاج القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهما العصران اللذان ظهرت فيهما العلوم الحديثة وبعد ظهور هذه الانكشافات الحديثة بدأ كثيرًا من الأوربيين يظنون أنهم لم يعودوا بحاجة إلى الإيمان بالله، وهكذا أصبح الإله في نظرهم فكرة غير ضرورية وكل فكرة غير ضرورية لا يقوم على أساس، ولعله لا يغيب عنا مقالة نيتشه (Nietzsche): " لقد مات الإله الآن" اهـ
(2)
.
فلا عجب أن يقول بهذا القول الباطل قوم لم يمنحهم الله كتابه الذي يحكى في لغتهم تاريخ العقيدة بوضوح لا لبس فيه، إلا أن العجب أن يتأثر بهذا المنهج رجال يعدون أنفسهم باحثين مسلمين.
فيرى عباس محمود العقاد أن الحقيقة الإلهية لم تتجل للناس مرة واحدة، فيقول في كتابه:"الله": "فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين ولا على أنها تبحث عن محال، كل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد" اهـ
(3)
.
(1)
ينظر مجلة فكر ونظر العدد الخاص لسيد أحمد خان: أكتوبر 1995 م ص: 10 - 11.
(2)
الوحي القرآني لـ د. محمود ماضي ص: 31.
(3)
كتاب "الله" لعباس محمود العقاد، دار الهلال القاهرة ص:10.
ويقول أيضًا: "كانت عقائد الإنسان الأولى مساوية لحياته الأولى وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليس أوائل العلم والصناعة بأرقي من أوائل الأديان والعبادات، وليس عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى" اهـ
(1)
.
ثم أخذ يستعرض آراء الباحثين في تاريخ العقيدة: منهم من يرى أن السبب في نشأة العقيدة هو ضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعدائه، ومن قوى الطبيعة والأحياء ....
وبعضهم يرى أن العقيدة الدينية حالة مرضية في الآحاد والجماعات ويرى البعض أن أصل العقيدة الدينية عبادة "الطوطم" كأن تتخذ بعض القبائل حيوانًا "طوطما" تزعمه أبًا لها، وقد يكون شجرًا أو حجرًا يقدسونه، إلى آخر تلك الفروض التي قامت في أذهان المستشرقين الباحثين الغربيين
(2)
.
ومن ثم تأثر من تأثر أمثال السيد بهذه المنهجية الغربية الاستشراقية فقالوا: إن العقل البشري يمكن به الوصول إلى معرفة خالق الكون وذلك عند انعدام العلم لكثير من أسباب اختلاف هذا الكون، فالمستحسن في هذا الأمر أنه اعترف بالدليل العقلي في معرفة الخالق، ولكنه ترك ما كان عند السلف من الأدلة العقلية. واتخذ ما قدمته المنهجية الغربية دليلا، وهو لا يشعر أن هذا الدليل يشق الطريق إلى الإلحاد، وهو أن يقال: عند عجز معرفة الإنسان أسباب تقلبات الكون ينسبها إلى الله عز وجل، وإذا عرف الإنسان أسباب هذه التقلبات فهل ينكر الإله؟
هذا في الحقيقة ليس شبهة وإنما هو استنتاج مما ذهب إليه السيد من استخدام الدليل العقلي لمعرفة الخالق متأثرا بالمنهجية الاستشراقية، وهذا الدليل قد استخدمته المنهجية الغربية التي لا علم لها عن تاريخ العقيدة، فتخبطت في معرفة الخالق، وتحديد بداية عقيدة الإله، فهل كانت بدايتها بالتعدد أو بالتوحيد؟
(1)
ينظر كتاب "الله" لعباس محمود العقاد، ص:10.
(2)
المرجع السابق ص: 10 وما بعدها.
ولكن الله عز وجل قد أغنانا عن مثل هذه الفروض والتخمينات بكتابه العزيز الذي فيه علم غزير عن تاريخ العقيدة الإلهية في البشر، بعد أن هبط آدم إلى الأرض قد أنشأها الله ذرية كانت على التوحيد الخالص، قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" اهـ
(2)
.
وبعد أن كان الناس أمة واحدة على التوحيد حصل الزيغ والانحراف، فبعث الله نوحًا أول رسولٍ بعد الانحراف، عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}
(3)
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وانتسخ العلم (نسي ودرس) عبدت" اهـ
(4)
.
فالتوحيد أولًا ثم التعدد والشرك وليس العكس كما تدعيه المنهجية الجديدة من أن التعدد أولًا ثم التوحيد ثم انشق الطريق إلى الإلحاد
(5)
.
(1)
سورة البقرة: 213.
(2)
رواه ابن جري عن محمد بن بشار، قال: ثنا أبو داود قال: ثنا همام بن منبه، عن عكرمة عن ابن عباس (جامع البيان للطبري 2/ 334) ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 257).
(3)
سورة نوح: 23.
(4)
صحيح البخاري مع الفتح: 8/ 667 (4920).
(5)
كما أثبت ذلك د/ عمر سليمان الأشقر في كتابه "العقيدة في الله" ينظر ص: 267 وما بعدها.