الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علمية، وخافوا على من ينخدع بها من عامة المسلمين، ولعلهم أخلصوا نياتهم أيضا، فأرادوا تضييق الفجوة بين مبادئ الدين عند المسلمين وبين مفهوم الدين عند الغرب، فجاؤوا بتعريفات للنبوة توافق ما عند الأعداء، حتى يخف الصدام الواقع بين المبادئ التي عندنا وعندهم.
وهكذا قد أثار السيد وإقبال ومن على شاكلتهما شبهة النبوة المكتسبة أو المحترفة، ومهدوا الطريق لمن ادعى النبوة من الكذابين والدجالين، كما سيأتي بيان ذلك في الفصول القادمة عند ذكر الفرقة القاديانية، ويجدر الإشارة هنا إلى أنه قد اعتبر السيد "إيديسن" و"ستيل" الإنكليزين من الأنبياء على هذا الأساس
(1)
، وقال إقبال عن الغزالي:"وعلى كل حال يتعين علينا اعتراف بأنه قد وجد في دعوة الغزالي شأن النبوة (Apostle) كما حصلت هذه المنزلة نفسها لـ "كانت" (Kant) في ألمانيا في القرن الثامن عشر الميلادي" اهـ
(2)
.
بعد هذا التحليل العلمي لعبارات المستغربين تتبين الشبهة وهي أن النبوة ليست منحة إلهية إنما هي أمر فطري يوجد في المرء فيطوره، أو هي أمر كسبي فيكسبه بالمجاهدات الصوفية.
تفنيد الشبهة
شبهة النبوة الفطرية أو المكتسبة:
والرد على هذه الشبهة يكون على وجوه:
أولا: اختلاف مفهوم النبوة في اليهودية والنصرانية عنه في الإسلام، وهو اختلاف جوهري، فالنبوة عند اليهود لها مفهوم واسع الحدود وعديم الانضباط، وهذا الأمر قد أتاح لكثير من الشخصيات الإسرائيلية القديمة أن تكتسب صفة النبوة،
(1)
ينظر مقالات سير سيد أحمد خان: 13/ 19.
(2)
تشكيل جديد لإقبال ص: 7.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى اختلاط مفهوم النبوة بمفاهيم أخرى مثل الكهانة والعرافة والتنبأ مما أدى إلى إطلاق لفظ "النبي" على كثير من الشخصيات التي لا تستحق ذلك، وقد تعدد أصناف الأنبياء في التاريخ الديني لبني إسرائيل فهناك أنبياء الطقوس والشعائر والمرتبطين بالهيكل وخدمته، وهناك ما يسمى بـ "الأنبياء المحترفين" الذين اتخذوا من التنبؤ حرفة لهم، وهناك طائفة "بني الأنبياء" الوارد ذكرهم في سفر الملوك الإصحاح رقم: 3، 2 وبسبب هذا التشعث في النبوة وأهدافها، ووظائفها ظهرت طائفة من المدعين للنبوة باسم "الأنبياء الكذبة" في بني إسرائيل
…
" اهـ
(1)
.
فالنبوة في مفهوم اليهود والنصارى تكسب في الغالب بالتعلم، ولها مدارس خاصة، لا يخرج التلميذ منها إلّا وقد حلّ عليه روح القدس وتنبأ، هكذا يتقولون، فجاء في قاموس الكتاب المقدس "وكان الله يختار من بين هؤلاء التلاميذ (تلاميذ المدارس الخاصة من أولاد الأنبياء) عددا ويقبلهم أبناء له ليعلموا الشعب بما يريده منهم، ويختصهم بوحيه" اهـ
(2)
.
ولا عجب إذن أن يختلط أمر النبوة على اليهود والنصارى فيضمون إلى قائمة النبوة بعض أصحاب الرأي والمتنبئين والعرافين والكهنة والسحرة وغيرهم.
ولكن الأمر في الإسلام واضح جدا، فقد ختمت النبوات والرسالات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}
(3)
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم،
(1)
ينظر أرميا 1: 8، 9، 29 نقلا عن ظاهرة النبوة الإسرائيلية للدكتور محمد خليفة حسن أحمد ص: 7، 307.
(2)
قاموس الكتاب المقدس لنخبة من ذوي الاختصاص ومن اللاهوتيين ص: 949.
(3)
سورة الأحزاب: 40.
فإن الله سائلهم عما استرعاهم" اهـ
(1)
، والذي يدعي النبوة لنفسه أو يزعم النبوة لأحد من الخلق بعد هذا التصريح الصريح فهو كذاب ودجال.
ثانيا: لو كانت النبوة حرفة كأي حرفة أخرى يكتسبها المرء بمجاهدات شخصية، أو هي ملكة فطرية توجد في ذات النبي كوجود أي ملكة إنسانية أخرى، فلماذا خاف وارتجف عند ما نبئ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بنبوة سماوية؟ كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
…
"فجاءه الملك فقال اقرأ
…
ثم غطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهبت عنه الروع" اهـ
(2)
.
ثالثا: أنه وردت هناك أمور في الحديث الصحيح على لسان هرقل الملك النصراني الجزاء الذي كان ينظر في النجوم، فيعرف بها النبوة الصادقة من النبوة الكاذبة، فالنبوة الصادقة هي منة من الله لا يعطيها الله إلّا من كان ذا نسب كريم، ولا تكون النبوة توارثا، ولا تقليدا لأحد، والنبي الصادق لا يريد من نبوته ملكا لآبائه والنبي لا يكون كذابا، ويتبعه ضعفاء الناس، وهم يزيدون ولا ينقصون، ولا يرتدّ أحد بعد أن دخل في دينه، ولا يغدر، ويأمر بالتوحيد، وينهى عن الشرك، ويأمر بالصلاة والصدق والعفاف
(3)
.
أما النبوة الكاذبة فتكون مكتسبة، ويدعي صاحبها تقليدا لمن سبق بهذا الادعاء، ويهدف من ورائها المُلك والسلطة، ويكون كذّابا، ويتبعه أشراف الناس، وهم ينقصون ولا يزيدون، وبعد أن عرفوا كذبه يرتدون، ويغدر الكذاب، ويأمر بالشرك، ولا يأمر بالصلاهَ والصدق والعفاف.
(1)
صحيح البخاري مع الفتح: 6/ 495 (3455).
(2)
المصدر السابق: 1/ 22 (3).
(3)
ينظر علامات الأنبياء التي يُعرفون بها عند ابن تيمية في كتابه النبوات ص: 165.
كما رواها ابن عباس رضي الله عنه "أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام
…
(حتى قال) قال (هرقل) لترجمانه: قل إني سائل هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه
…
(ثم قال): فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أن أخلص إليه لتشجعت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه" اهـ
(1)
.
رابعا: لا ندعي أن هذه الحقائق غابت عن ذهني السيد وإقبال، وكذلك لا نتهمهما بأنهما كذّبا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بل نحسن بهما الظن، ونقول إنهما كانا ممن دافع عن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان لزاما عليهما أن يقفا وفقات مع كل مستشرق ومكابر في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان على السيد أن يفرق بين النبوة الصادقة والنبوة الكاذبة، وأن يربط النبوة الصادقة بما وراء الغيب من وحي وجبرئيل وكلام من الله عز وجل، ولكنه قد أنكر هذه الحقائق الثابتة من الكتاب والسنة وأولها بتأويلات باردة، فإنكار هذه الإيمانيات الصادقة كفاه ردا على الفرية التي افتراها بقوله إن النبوة ليست منحة إلهية.
وأما إقبال إذا كان يعرف الحقائق المذكورة كان لزاما عليه أن لا يقيس النبوة التي هي منحة إلهية بما اخترعه من عند نفسه من الشطحات الصوفية، والمكاشفات الشيطانية التي سماها الكشوفات والواردات والاتحاد.
(1)
صحيح البخاري مع الفتح: 1/ 31 - 32 (6).
المطلب الثاني: مفهوم الوحي.
وفيه
* تعريف الوحي.
* أقوال المتأثرين بالاستشراق.
* تحليل العبارة وتعيين الشبهة.
* تفنيد الشبهة: شبهة الوحي النفسي.