الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدلالات وهؤلاء العلماء الذين روي عنهم التفسير بالمقتضى لا ينكرون المعية، بل هي عندهم كالشمس
(1)
، كما سبق ذلك في بداية هذا المطلب.
هذه وغيرها من عبارالت السلف في وصف المعية والقرب تلمح إلى أنهم أرادوا بها كناية عن العلم والسمع والبصر والقدرة، وقد صرح بذلك ابن حجر رحمه الله وقال: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته
…
(2)
.
وأما الحديث الذي ذكره إقبال حجة لأقوال الصوفية في الحلول والاتحاد فهو حديث موضوع كما حققه الشيخ الألباني رحمه الله فقال: "لا نعرف له أصلًا في شيء من كتب السنة" اهـ
(3)
وهكذا تكون حجج الاعتقادات الباطلة، فإذا سقط الدليل فقد سقط المدلول.
الشبهة الثانية: إثبات المكان للرب في الكون دون العرش:
ولقد أثبتنا المباينة ردّا على الاتحاد والحلول، وأثبتنا الاستواء ردا على المؤولة والمعطلة، فالمباينة عن الخلق والاستواء على العرش أكبر وأجل رد على الزعم السابق، وبالإضافة إلى ما سبق نخص بالرد هنا على زعم إقبال بإثبات علو الرب على خلقه وذلك من وجوه:
أولا: إن اضطراب الدكتور إقبال في أقواله عن مقام الله نفسه يدل على بطلان اعتقاده، قد يقول:"إن الإلهية مختفية في ذاتك أيها الغافل" اهـ
(4)
وقد
(1)
فتاوى ورسائل للشيخ محمد ابراهيم آل الشيخ: 1/ 212 - 213.
(2)
فتح الباري لابن حجر 11/ 344.
(3)
ينظر شرح الطحاوية تخريج الألباني ص: 123 ونصه: تخلقوا بأخلاق الله.
(4)
بال جبريل لإقبال ص: 69.
يقول: "نحن نحيى ونعيش في ذات الإله" اهـ
(1)
وقد يقول: "الحياة الإلهية مكان لطيف في هذا الكون" اهـ
(2)
.
فنسأل إقبالًا أين الله؟ فهل هو في الإنسان؟ أو الإنسان في الإله؟ هل هو في الكون؟ أو الكون في الإله؟ العقول الصحيحة والفطر السليمة كلها ترفض جميع الأقوال ولا ترضى إلا بما رضي به رسول الأمة من أَمةٍ حين سألها "أين الله؟ " فأجابت فطرتُها السلمية من شوائب الفلسفة وعلم الكلام بقولها: "هو في السماء" فحكم بأنها مؤمنة
(3)
.
ثانيا: "أنه ثبت بضرورة العقل أنه سبحانه وتعالى مباين للمخلوقات وثبت أن العالم كروي، كما اعترف به النفاة المعطلة، وجعلوه عمدتهم في جحد علوه سبحانه وتعالى، لزم أن يكون الرب تعالى في العلو ضرورة، وذلك لأن العالم إذا كان مستديرًا فله جهتان حقيقتان العلو والسفل فقط، فإذا كان الرب تعالى مباينًا للعالم، امتنع أن يكون في السفل، فوجب قطعًا أن يكون في العلو، فإذا كان العالم كرويًا وقد ثبت في الضرورة أنه إما مداخل له وإما مباين له، وليس بمداخل قطعًا، ثبت أنه باين قطعًا وإذا كان باينًا، فإما أن يكون تحته أو فوقه قطعًا، وليس تحته بالضرورة وجب أن يكون فوقه بالضرورة" اهـ
(4)
.
ثالثا: "أنه لما كانت السماء محيطة بالأرض كانت عالية عليها، ولما كان الكرسي محيطة بالسماوات كان عاليًا عليها، ولما كان العرش محيطًا بالكرسي كان غاليًا عليها، فمن كان محيطًا بحميع ذلك، وهو رب العزة والجلال كان عاليًا عليه ضرورة ولا يستلزم ذلك مماثلته ومشابهته، فالسموات محيطة بالأرض وليست مماثلة
(1)
تشكيل جديد لإقبال: ص: 110.
(2)
ينظر تشكيل جديد لإقبال: ص: 208.
(3)
ينظر صحيح مسلم مع الشرح: 1/ 382 (538).
(4)
الصواعق المرسلة لابن القيم: 4/ 1280.
لها، فالتفاوت الذي بين العالم ورب العالم أعظم من التفاوت الذي بين الأرض والسماء، ولله المثل الأعلى، فلإحاطة تقتضي المباينة والمباينة تقتضي أن يكون في العلو وهو أشرف الجهات" اهـ
(1)
.
رابعا: أنه ثابت له العلو والفوقية بالكتاب والسنة وإجماع الملائكة والأنبياء المرسلين وأتباعهم
(2)
على الحقيقة على عباده فوقهم مستويًا على عرشه عاليًا على خلقه بائنًا منهم، يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى حركاتهم وسكناتهم لا تخفى عليه منهم خافية، والأدلة في ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى وأجل من تستقصى، وقد سبق أن ذكرنا بعضًا منها.
خامسا: "إنه قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص، ولهذا لما تقابل الموت والحياة وصف بالحياة دون الموت، ولهذا لما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل وكذلك العجز والقدرة والكلام والخرس والبصر والعمي والسمع والصمم، والغني والفقر، ولما تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه، وتقابل العلو والسفول وصف بالعلو دون السفول" اهـ
(3)
.
سادسا: "إنه يقال لمن أنكر المباينة والعلو، أليس الله كان ولا شيء فيقول نعم، فقيل له: حين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه؟ فإنه يصير إلى
(1)
الصواعق المرسلة لابن القيم: 4/ 1308.
(2)
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: "إن كون الله سبحانه فوق سماواته على عرشه في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل (ذكره في كتاب الغنية كما في السلم للذهبي 193)، وقال ابن القيم رحمه الله: إن الرسل من أولهم إلى آخرهم ليس بينهم اختلاف في أسماء الرب وصفاته وأفعاله وإن تنوعت شرائعهم العملية بحسب المصلحة فلم يختلف منهم اثنان في باب الأسماء والصفات"(الصواعق المرسلة 4/ 1279).
(3)
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم: 4/ 1307.
ثلاثة أقوال: لا بد له من أحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحشي قذر رديء، وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم لم يدخل فيهم (بل استوى على العرش) رجع قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة (هذا ما احتج به الإمام أحمد نفسه على الجهمية)
(1)
.
سابعا: أنه قد "اتفقت الفطرة المستقيمة والعقل الصحيح والوحي المبصر المكمل على الإقرار بموجود فطر هذا العالم بجميع ما فيه عاليه وسافله وما بينهما، وشهدت الفطر والعقول والشرائع المنزلة كلها بأنه ليس من جنس العالم ولا مماثلًا له، وأنه مباين له غير ممتزج به ولا متحد به ولا حال فيه وأنه فوق جميع العالم عالٍ عليه بجميع أنواع العلو ذاتًا وقهرًا وعظمة، وأنه موصوف بجميع الكمال المقدس من لوازم ذاته، فتوهم رفعه عنه كتوهم عدم ذاته ومن لم يكن هذا الأصل معلومًا عنده علمًا لا يشك فيه ولا يرتاب بل لقلبه كالمشاهدات لبصره، وإلّا اضطرب عليه باب معرفة الله ووحدانيته" اهـ
(2)
.
(1)
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم: 4/ 1309.
(2)
المرجع السابق 4/ 1278.