الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعظم شأني"
(1)
فهذه كانت مراتب عليا من التصوف الإسلامي، وما كان قصدهم من هذا الاتحاد والتقرب أن ذات المتناهي انجذب إلى ذات غير المتناهي وتلاشت فيه وإنما كان قصدهم أن غير المتناهي (الله) نفسه قد جاء في حجر حب المتناهي (العبد") اهـ
(2)
.
وقال أيضًا: "واعلم أن القرب والاتصال والافتراق كلمات لا تطلق على الذات الإلهية، كما تطلق على الأجسام المادية، فالحياة الإلهية لها علاقة بجميع الكائنات مثل علاقة الروح بالبدن كله، فإن الروح في البدن لا في خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه مع ذلك للروح علاقة بكل جزء من أجزاء الجسم، فلا يمكن أن نتصور له مكانًا إلا حسب ما يليق لمثل هذا الجسم اللطيف، وعلى هذا القياس يتعين علينا أن نثبت للحياة الإلهية مكانًا يليق بجلاله، ويعرف هذا المكان بتعريف يليق بجلاله المطلق" اهـ
(3)
.
وقال في كلامه الشعري: "أيها الغافل ابحث عن الألوهية في ذاتك فإنها مختفية فيها، وهذا هو الطريق الصحيح لك" اهـ
(4)
.
تحليل العبارة وتعيين الشبهة:
كان الدكتور إقبال ممن جمع التيارين الفلسفي والصوفي
(5)
فاتبع منهج التأويل البعيد وبحث عن أعذار شرعية لدعاوى الكفر والحلول عند الصوفية، فالصوفية وقفوا عند حدّ، وقالوا إن ذات المتناهية (الإنسان) قد تلاشت في غير المتناهي (الرب) عند الحلول، ولكن إقبال قد تجاوز هذا الحد، فسلك المسلك الغربي الاستشراقي الذي
(1)
قاله الصوفي المشهور بايزيد.
(2)
تشكيل جديد لإقبال ص: 166.
(3)
المرجع السابق ص: 208.
(4)
بال جبرئيل لإقبال: 69.
(5)
كما أثبتنا ذلك في الباب الأول عند ذكر منهجية إقبال. ينظر ص: 192 في هذا البحث.
يمجد الإنسان فوق منزلته، فرفع الإنسان إلى حد أن غير المتناهي نفسه قد جاء في حجر المتناهي، ثم تناسي مكان الرب الحقيقي الذي هو العرش العظيم، وأثبت له مكانًا لطيفًا في الكون لا في خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه وله علاقة بكل جزء من أجزاء الكون كعلاقة الروح بالجسد غير متباين عن خلقه، ومما لا شك فيه إن هذه دعوى سافرة من إقبال بالحلول والاتحاد والفناء
(1)
.
"و .... الفناء الموجود في كلام المشايخ والصوفية على ثلاثة أقسام: قسم كامل للسابقين، وقسم ناقص لأصحاب اليمين، قسم ثالث للظالمين الفاسقين والكافرين.
فالأول: الفناء عن عبادة ما سوى الله، والاستعانة به بحيث لا يعبد إلّا الله، ولا يستعين إلا بالله، وهذا هو دين الإسلام
(2)
.
والثاني: الفناء عن شهود ما سوى الله، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده، وهذا لمن لم يقدر على الجمع بين شهود الحقائق وعبادة الخالق، بل ما شهده عنده، ومعبوده واحد، فمشهوده واحد، وهذا يعتري كثيرًا .....
والثالث: وهو فناء الكافرين، وهو جعل وجود الأشياء هو عين وجود الخالق أو هو وجود نفسه عين وجوده .... فإن هذا كفر وصاحبه كافر بعد قيام الحجة
(1)
الحلول: وحلّ بالمكان حلّا وحلولًا ومحلًّا، وحلّ الهدي يحلّ حلةّ وحلولًا أي بلغ الذي يحل فيه نحره. (الصحاح للجوهري: مادة "ح ل ل").
الاتحاد: حال موجدين مختلفين وأكثر يؤلفون كلًا واحدًا من جهة ما، مثل اتحاد النفس والجسم، عند أرسطو الاتحاد بين النفس والجسم هو اتحاد جوهري، ومعنى ذلك أنه ليس في مفهوم الجسم شيء مما يخص النفس وليس في مفهوم النفس شيء مما يخص الجسم. (الصحاح للجوهري: مادة "وح د").
الفناء: فناء انتقال من الوجود إلى اللاوجود ويقابل الحدوث (البدء المطلق) الذي هو الانتقال من اللاوجود إلى الوجود، من أعلى مقامات الصوفية فينتمي به العبد في الرب وتغيب هويته في هويته. (الصحاح للجوهري مادة "ف ن ي").
(2)
ومع هذا لم يسمه أحد بالفناء وإنما سماه القرآن الكريم الإخلاص.
عليه، وإن كان جاهلًا أو متأولًا لم تقم عليه الحجة كالذي قال إذا أنا مت فأحرقوني ثم زروني في اليم
(1)
فهذأ أمره إلى الله" اهـ
(2)
.
ولعل فناء إقبال يدخل في النوع الثالث حيث يجعل وجود الأشياء عين وجود الحق فيقول: "العالم بكافة جزئياته من الحركة الإلهية فيما نسميه ذرة من المادة إلّا حركة الفكر الإنساني الطليق من كل قيد، كل أولئك ما هي إلا تجلي الإلوهية العظمى أو العلي الأعلى" اهـ
(3)
.
بل المتأمل في دراسة إلهيات إقبال يجده مضطربًا بين الأمور الثلاثة السابقة، وهذا تخبط قد حصل لكل من نزّل الإله عن عرشه العظيم فقصُر باعه من أن يتصور الله مباينًا لخلقه مستويًا على عرشه المجيد، ولم يستطع أن يقدره حق قدره ويحدد له مكانه العالي عندما تناسى مكانه الحقيقي.
ومن البواعث التي حملت الدكتور إقبال على القول بهذه الآراء المنحرفة اعتماده على أقوال المستشرقين في تفسير شطحات الاتحاديين المتصوفة ثم تأثره بنتائجهم، وتدل على ذلك العبارة التالية لإقبال فيقول:
"وقد بلغ تطور هذه الرياضية ذروته في تاريخ الإسلام في عبارة الحلاج
(4)
المشهورة "أنا الحق" وفسّروا الذين عاصروا الحلاج والذين جاءوا من بعده عبارته هذه على أنها تتضمن الشرك، ولكن مجموعة نصوص الحلاج التي جمعها ونشرها المستشرق الفرنسي ماسينيون (M. Massignon) لا تدع مجالًا للشك في أن الولي الشهير لم يكن يقصد من عبارته أن ينكر على الله صفة التنزيه، والتفسير الصحيح لتجربته إذن، ليس هو أن الفطرة تنزلق في البحر، ولكنه إدراك لحقيقة النفس الإنسانية
(1)
يشير إلى حديث مشهور في صحيح البخاري مع الفتح: 11/ 312 (6480) وتتمته: فجمعه الله ثم قال ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له.
(2)
الاستقامة لابن تيمية: 2/ 142 - 144.
(3)
ينظر تشكيل جديد لإقبال ص: 109.
(4)
ينظر لترجمة الحلاج ص: 633 في هذا البحث.
وتأكيد جريء لدوامها في شخصية أعمق بعبارة قوية باقية على الدهر، وتبدو عبارة الحلاج كأنها كانت تحديًا للمتكلمين" اهـ
(1)
.
والعبارة لا تحتاج إلى مزيد من التعليق ففيها دلالة واضحة على أن إقبالًا ترك حكم علماء الإسلام على قول الحلاج بأنه شرك، وتمسك تفسير المستشرق بأنه ليس بشرك إنما هو تمجيد للإنسان.
ومن البواعث التي حملته على هذا الانحراف استناده إلى بعض الاستدلالات الخاطئة التي ذهب إليها العراقي
(2)
في إثبات المكان اللطيف في هذا الكون، فعلى سبيل المثال نذكر بعض الآيات القرآنية التي استدل بها العراقي وما يشابهها من النصوص التي قد يستدل بها عامة الحلولية الاتحادية.
(3)
.
(4)
.
(1)
تجديد الفكر الديني في الإسلام لإقبال: ترجمة عباس محمود مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة 1955 هـ ص: 110، وهذه العبارة غير مترجمة إلى اللغة الأردية فأخذتها من العربية.
(2)
هو ركن الدين أبو الفضل العراقي ابن محمد ابن العراقي القزوني الطاووسي المتكلم صاحب الطريقة المشهورة في الجدل، كان رأسًا في الخلاف والنظر، أخذ عن الرضي النيسابوري الحنفي صاحب الطريقة، مات سنة 600 هـ (سير أعلام النبلاء 21/ 353) فذهب إقبال مذهبه في إثبات المكان اللطيف لله عز وجل كما أشرنا إليه في منهجية إقبال. ينظر ص: 195 في هذا البحث.
(3)
سورة المجادلة: 7.
(4)
سورة يونس: 61.
(1)
.
(2)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته" اهـ
(3)
.
هذه وغيرها من النصوص الواردة في صفة المعية والقرب
(4)
قد ضلت عامة الحلولية في الاستدلال بها، وقالوا: وإذا كان الله معنا، فنحن لا نفهم من المعية إلا المخالطة والحلول أو المصاحبة في المكان
(5)
.
وعلى ذلك تتعين الشبهة فيما يلي:
(1)
سورة ق: 16.
(2)
سورة الحديد: 4.
(3)
صحيح البخاري مع الفتح: 11/ 340 - 341 (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
هذه النصوص تدل على صفة المعية والقرب فكانت هي موضع تمسك وفتنة لعامة من ذهب إلى فكرة الحلول والاتحاد والفناء، وسيأتي بيان شامل على توجيهات السلف وفهمهم السليم لآيات المعية في ضوء نصوص الاستواء ونصوص العلو والفوقية إذ أن من أصول المنهج السني الرجوع إلى جميع النصوص الواردة في مسألة ما وعدم الاقتصار على بعضها دون البعض الآخر، ومن خالف هذه القاعدة فقد ضل، وسيأتي بيان بطلان الاستدلال بها وما تدل عليه النصوص من الاستدلال الصحيح. ينظر ص: 285 في هذا البحث.
(5)
ينظر استدلال العراقي بهذه الآيات في تشكيل جديد لإقبال ص: 207 - 208.