الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجانب الثاني:
"الجانب السلبي: ويقوم على دراسة الناحية الأخلاقية والعلمية لصاحب الوثيقة واستكشاف ما إذا كان يتصف بالعدالة وبالصفات الأخلاقية والعلمية التى تمنعه من الغش والكذب والتقصير في ضبط الرواية، أم أن فيه بعض النقائص الأخلاقية والعلمية التى تؤثر في كمال روايته" اهـ
(1)
.
ومما لا شك فيه أن المحدثين قد فاقوا في هذا الجانب المؤرخين كثيرًا. حيث اشترطوا في الراوي أن يكون عدلًا وضابطًا وكانوا يزنون الرجال الوزن الدقيق وصنفوهم على طبقات
(2)
.
قال مطرف وهو من التابعين: "أشهد لسمعت مالكًا يقول: أدركت بهذه البلاد مشيخة من أهل الصلاح والعبادة يحدثون، ما سمعت من واحد منهم حديثًا قط، قيل: فلم يا أبا عبد الله؟ قال: لم يكونوا يعرفون ما يحدثون" اهـ
(3)
.
الخطوة الرابعة:
" تركيب الحوادث التاريخية بأن يُضم الحوادث بعضها إلى بعض وتصنيفها بعد سدِّ الثغرات بين أجزائها، وسد الثغرات قد يتطلب لتحقيقه وضع بعض الفروض وامتحانها فرضًا فرضًا على ضوء الحوادث التاريخية، وبعد أن يتم ذلك يضع لها صيغًا عامة يعرض الحوادث وقفًا لها، فإذا تم له ذلك استطاع الاهتداء إلى الصلات بين الحوادث وتوضيح ما خفي من أسرارها" اهـ
(4)
، وهذا كله مأخوذ مما قام به الفقهاء من المحدثين الذين استنبطوا الأحكام بعد جمع الروايات وترتيبها وتصنيفها وبعد أن عرفوا الناسخ منها والمنسوخ.
(1)
النقد الأعلى للكتاب المقدس لـ د. قنديل محمد قنديل 506.
(2)
ينظر منهج النقد عند المحدثين لـ د. محمد مصطفى الأعظمي: ص: 100.
(3)
المجروحين 13 ب.
(4)
النقد الأعلى للكتاب المقدس د. قنديل محمد قنديل ببعض التصرف ص: 6.
وهذا مفهوم مستقيم للمنهج التاريخي وهو مأخوذ ومستمد من أسلافنا المحدثين إلا أن المحدثين قد نفذوه وطبقوه على بحوثهم ودراساتهم ونقدهم، بينما يكون كلام المؤرخين نظريًا خياليا، ولم يطبقوا إلا في أضيق الحدود في حوادث نادرة جدًا.
وأما المنهج التاريخي الذي طبقه المستشرقون على الدراسات الإسلامية فهو عبارة عن وصف وتسجيل ما مضى من وقائع تاريخية أو اجتماعية ووضع بعضها بجوار بعض وترتيبها ثم الإخبار عنها والتعريف بها باعتبارها الظاهرة الفكرية ذاتها تاركًا كلية أصول الظاهرة في الوحي أو في الشعور .... فإذا كان الموضوع علم التوحيد سردت الوقائع التاريخية كما يحلو للبعض أن يصفها، وكأن علم التوحيد جزء من التاريخ العام، فإذا ذكرت المعتزلة ذكرت حادثة واصل بن عطاء مع الحسن البصري ونشأة المعتزلة باعتزاله مجلسه، وإذا ذكر خلق القرآن ذكرت محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وعصور المأمون والمعتصم والمتوكل، وإذا ذكرت الشيعة ذكرت أسماء الأعلام والأئمة وتنسب المذاهب والأفكار إلى الأماكن، فهناك الحرورية والبصريون والبغداديون والكوفيون في حين أن الأفكار مستقلة عن الأماكن ولها وجودها الخاص في الشعور
(1)
.
"وإذا كان الهدف من تطبيق المنهج التاريخي هو الحصول على أكبر قدر ممكن من المعارف والمعلومات عن الموضوع المراد دراسته، فإن مهمة الباحث هنا إرجاع الظاهرة الفكرية إلى أصولها الأولى، فنحن عندما ندرس الحضارة الإسلامية فإن الذي يعنينا ليس التطور التاريخي للحوادث والأخبار وجمعها وتحقيقها، فهذا السرد لا يؤدي بنا إلى نتائج جديدة لأنه عبارة عن ترداد ما حصل في الماضي، ولكن المهمة هي إرجاع الظواهر الفكرية الإسلامية إلى أصولها الأولى التي خرجت منها القرآن والسنة
(1)
ينظر التراث والتجديد لـ د. حسن حنفي 64 - 65، والظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية لـ. د سالم حاج 1/ 199 - 200 والوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده لـ د. محمود ماضي 32 - 34.
مثلًا لمعرفة كيفية خروجها منها ومحاولة العثور على منهج أو مناهج دائمة، يمكن بواسطتها العثور على منهج إسلامي عام" اهـ
(1)
.
ولكن غالب ما يكون هدف المستشرق من نسبة الفكر إلى القائل به عندما يستخدم المنهج التاريخي "هو إثبات جدب الحضارة وصمت الوحي، وأنه لولا الفيلسوف أو العالم لما ظهر الفكر، فالإنسان هو خالق الفكر وليس الوحي هو مصدر الفكر، فإذا كان هؤلاء المفكرون والعلماء معظمهم غير عرب وإن كانوا مسلمين، فإن المستشرق بذلك قد حقق هدفه من إثبات نظرته القومية على الحضارة الإسلامية وإرجاع الإبداع إلى الخصائص القومية للحضارة وحتى لا تكون هي الحضارة العربية (الإسلامية) "
(2)
.
وقد صرح جولدتسيهر بهذا الهدف عندما تناول العقيدة الإسلامية في ضوء المنهج التاريخي فقال: "ومنهاج هذه الدراسة لا يدخل فيه بحث التفاصيل الخالصة المذهبية لهذا الدين والذي علينا هو أن نلقي ضوءًا على العوامل التي أسهمت في تكوينه التاريخي، ذلك بأن الإسلام كما يبدو عند اكتمال نموه، هو نتيجة تأثيرات مختلفة تكون بعضها باعتباره تصورًا وفهمًا وأخلاقيًا للعالم، وباعتباره نظامًا قانونيًا وعقديًا، حتى أخذ شكله السني النهائي وعلينا كذلك أن نتحدث عن التيارات التي أثرت في اتجاهات نهر الإسلام، لأن الإسلام ليس مذهبا واحدًا، بل حياته التاريخية تتأكد فيما نشأ فيه من اختلافات" اهـ
(3)
.
(1)
التراث والتجديد لـ د. حسن حنفي ص: 69، وينظر الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية لـ د. سالم حاج 200 - 201.
(2)
التراث والتجديد لـ د. حسن حنفي ص: 68.
(3)
العقيدة والشريعة لـ جولدتسهر ص: 10.
فالمنهج التاريخي إذن يقضي على وحدة الظاهرة واستقلالها ويرجعها إلى عناصر مادية وإلى عوامل تاريخية مع أن هذه العناصر المادية إن هي إلا عوامل الفكر وليست مصدرًا لموضوعاته، فالطبيعة لا تنتج فكرًا بل هي محررة للفكر" اهـ
(1)
.
وقد يستخدم المستشرق المنهج التاريخي لنقد ظاهرة ما، فينقد الظاهرة بمعياره الخاص، ويسميه منهج النقد التاريخي، كما يقول المستشرق الألماني رودي بارت (Rudi Parret):" .... فنحن معشر المستشرقين عندما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية وفي العلوم الإسلامية لا نقوم بها قط لكي نبرهن على ضعة العالم العربي الإسلامي بل على العكس، نحن نبرهن على تقديرنا الخاص للعالم الذي يمثله الإسلام ومظاهره المختلفة، والذي عبر عنه الأدب العربي كتابة، ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كل شيء ترويه المصادر على عواهنه دون أن يعمل فيه النظر، بل نقيم وزنًا فحسب لما يثبت أمام النقد التاريخي أو يبدو كأنه يثبت أمامه، ونحن في هذا نطبق على الإسلام وتاريخه، وعلى المؤلفات العربية التي نستعمل المعيار النقدي نفسه الذي نطبقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى المصادر المدونة لعالمنا نحن" اهـ
(2)
.
وفي النهاية "إن استخدام هذا المنهج يؤدي إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم صدقية الوحي الإلهي، لأنه يحيل كل شيء إلى ظواهر تاريخية، فالمستشرقون إذا ذكروا محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنهم يصنفونه مع أنبياء الفرس وحكمائهم وذلك عندما يعقدون المقابلات بينه وبين "زرداشت" و "ماني"، حول الإسراء والمعراج والاتصال بالملكوت الأعلى. وهكذا يصبح هذا المنهج أداة لمحو النبوة المحمدية وتفسيرها ضمن النبوءات الأخرى التاريخية، وهو بذلك يقوم على فكرة مسبقة وعلى تميز حضاري وتعصب ديني" اهـ
(3)
.
(1)
التراث والتجديد لـ د. حسن حنفي ص: 71.
(2)
الدراسات العربية بارت ص: 10، نقلا عن الوحي القرآني د. محمود ماضي ص:28.
(3)
دراسات إسلاميه لـ د. حسن حنفي ص: 228 نقلًا عن الظاهرة الاستشراقية درسا س حاج 1/ 201.
والحقيقة كما أشرنا إليها في بداية المبحث "إن المنهج التاريخي قد استخدم في أوربا لدراسة المسيحية لأنها نشئت في بيئة دينية، ودخلت المؤثرات الخارجية كالبابلية والآشورية والغنوصية على نصها الديني، وهذا المنهج يبيح للباحث الكشف عن العناصر الأساسية التي ساعدت على تكوين المسيحية الأولى، وعندما يطبق المستشرق هذا المنهج على الظواهر الفكرية الإسلامية -التي في حقيقتها مثالية وليست مادية، أي أنها موضوعات فكرية مستقلة وليست موضوعات تاريخية- فتكون النتائج العلمية ليست صحيحة عند تطبيق هذا المنهج على الدراسات الإسلامية" اهـ
(1)
.
إن جل المستشرقين وقعوا في هذا الخطأ باعتبار أن مناهجهم تقوم على دراسة الظاهرة الفكرية كظاهرة مادية خالصة، وكتاريخ خالص مكون من شخصيات، وأنظمة اجتماعية وحوادث تاريخية محضة، يمكن فهمها بتحليلها إلي عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية تحدد نشأتها وطبيعتها، وهكذا تفقد الظاهرة طابعها المثالي، وتنقطع عن أصلها في الوحي وتصبح ظاهرة مادية خالصة
(2)
.
(1)
دراسات إسلامية لـ د. حسن حنفي ص: 227 نقلًا عن الظاهرة الاستشراقية درسا س حاج 1/ 201.
(2)
الوحي القرآني لـ محمود ماضي ص: 31.