الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باعتبار قرب الزمن للواقع، أو هي أصح الروايات سندا، فرواة التوراة كانوا شهود عيان للحادث، وليس الخبر كالمعاينة، فرواية التوراة أوثق من رواية بطلميوس.
وأصح الروايات على الإطلاق سندا رواية القرآن الكريم الذي جاء من عالم الغيب والشهادة، فخالف السيد القرآن وحرّف آياته لغرض في نفسه
(1)
.
إضافة إلى ما سبق أن الزمن الذي حدده السيد لتغيير الجغرافية مدة ثلاث مائة سنة (من القرن الثاني الميلادي الذي عاش فيه بطلميوس إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فعلى حد قوله إذا حدث هذا الحدث الكبير: أن اختفت من الأرض ثلاثون جزيرة خلال ثلاث مائة سنة (منذ عبور بني إسرائيل إلى يوم بطلميوس)، ومن الممكن جدّا أن يكون البحر الأحمر عميقا وخطيرا جدّا يوم عبور بني إسرائيل كما حكاه التوراة والقرآن الكريم، قال تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
(2)
.
قد تعينت الشبهة فيما سبق من التحليل وهي: أن المعجزات والكرامات المذكورة في القرآن والسنة لا بد من تأويلها لأنها تتعارض مع قانون الطبيعة الذي أودعه الله في كل شيء، وبعبارة أخرى: الشبهة هي إنكار المعجزات والكرامات.
تفنيد الشبهة
شبهة إنكار المعجزات والكرامات
.
قد سبق نقد إجمالي لهذه الشبهة الخطيرة عند تحليل العبارات، ولكي نأتي إلى ردّ تفصيلي نقول: إن الشيخ ثناء الله الأمرتسري رحمه الله قد تناول هذه الشبهة في تفسيره للقرآن الكريم بالرد والتفنيد، فنلخص ما قاله الشيخ في هذا الصدد بإضافة إلى ما يبدو لنا في سبيل الرد من الحق.
(1)
ينظر تفسير ثنائي الأمرتسري ص: 737 - 738.
(2)
سورة الشعراء: 63.
أولا: معجزة شق البحر ونجاة موسى وغرق فرعون قد اتفق على ثبوتها القرآن والتوراة، فقد جاء في التوراة: "مد موسى يده على البحر
…
انشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة
…
وتبعهم المصريون
…
فمد موسى يده فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة
…
وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون
…
لم يبق منهم ولا واحد" اهـ
(1)
.
وهكذا وردت في التوراة تفاصيل هذه القصة، والسيد يقول بعدم وقوع التحريف اللفظي في التوراة ويحتج بها في كثير من الأحيان.
ثانيا: أما قول السيد: "إن شقّ البحر كان بسبب المد والجزر" اهـ فُيرد على هذا بأن السيد قد نسي سياق الآيات، ففي الآية السابقة قد بدأ الله في ذكر النعم التي منّ بها على بني إسرائيل، فمن تلك المنن أن فرق البحر لهم فأنجاهم وأغرق أعداءهم فرعون وقومه، قال تعالى:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} ، فالآية واضحة جدا في معناها، وإذا صار الافتراق من طبيعته فأي منة فيه تذكر؟ وإذا كان هذا الافتراق من المد والجزر فلماذا لم ينتظر فرعون إلى جزر آخر؟
(2)
.
ثالثا: وأما قول السيد: "الضرب بمعنى الإسراع في المشي وقبل البحر "في" محذوفة في قوله تعالى {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} .... " فهل عنده شاهد على هذا الحذف من كلام العرب؟ وهل تحذف حروف الجر في كل مكان بدون أي ضابط؟ وماذا يكون المعنى إذا حذفنا "في" من جملة "صلى في المسجد"؟ أو إذا حذفنا "ل" من جملة "دعا له" فهل المعنى في هذه الجمل واحد قبل الحذف وبعده؟ أو هذا له معنى وذلك له معنى؟
(3)
.
(1)
سفر الخروج الإصحاح رقم: 19.
(2)
ينظر تفسير ثنائي للأمرتسري ص: 735.
(3)
ينظر المصدر السابق ص: 735.
رابعا: أما القاعدة التي ذكرها السيد: إذا وقع الفعل الماضي جزاء للشرط له حالتان .... الخ فلا تصح هذه القاعدة إذ أن الفعل الماضي لا يقع جزاء للشرط وهو باق في معناه الماضي، بل يقع دليلا على الجزاء المحذوف، والمثال الذي ذكره السيد:"إن أكرمتني فأكرمتك أمس" لا يستقيم دليلا لما ذهب إليه، بل هو دليل على الجزاء كما قال المتنبي:
إن تفق الأنام وأنت منهم
…
فإن المسك بعض دم الغزال
ثم إذا نظرنا إلى نهاية الآية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} تيقنّا بأنها كانت آية من آيات الله صدرت معجزة على يد موسى عليه السلام، لبيان قدرة الله الكاملة على خلقه، ولكن السيد وأمثاله لا يؤمنون بهذه الآيات
(1)
.
خامسا: من القواعد المطردة عند المفسرين وغيرهم من أهل اللغة: أن الكلمة دائما تجري على الحقيقة ما لم يصرفها صارف عن معناها الحقيقي، والسيد مقرّ بهذه القاعدة فيقول:"نحن المسليمين نعتمد على قاعدة مطردة وهي أن اللفظ يطلق على الحقيقة ما لم يصرفه صارف، والصارف قد يكون في سياق الكلام أو قد يكون قرينة في غير هذا المكان، فيصرفه هذا الصارف إلى المعنى التسلسلي، وقد نسميه مجازا أو استعارة" اهـ
(2)
.
فلماذا حاول السيد تحريف كثير من الكلمات التي وردت في شأن المعجزات، وهو يعرف أنه لا يُذهب إلى المجاز والاستعارة إلّا في حالة اضطرارية.
سادسا: أما قول السيد في معجزة موسى عليه السلام عند ما تحولت العصا إلى حية تسعى: "هي قوة مقناطيسية توجد في كل إنسان فيتأثر بها ويؤثر بها على الآخرين، وهي ما يسمى "مسمرزم" (Mismerism) أي نوع من السحر، وموسى قد أعطي هذه القوة في أعلى درجاتها وليست هذه معجزة تخرق العادة" اهـ.
(1)
ينظر المصدر السابق ص: 736.
(2)
تصانيف أحمدية للسيد: 6/ 318.
فنرد على هذه الفرية ونقول: إن سحرة فرعون كانت عندهم أيضا قوة مقناطيسية، على حد قول السيد، إذن الفرق عنده في الدرجة فقط، فكأنه يقول كما قال فرعون في موسى إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فنجيبه بما أجاب به الله عز وجل في تنزيله:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} .
ولقد بينا الفرق بين المعجزة والاستدراج، والكلام نفسه يقال في الفرق بين المعجزة والسحر.
سابعا: أما قول السيد: "لا يثبت من القرآن أن عيسى تكلم وهو صبي في حجر أمه بل تكلم عيسى بعد أن أوتي النبوة" فيناقض هذا القول قوله: "قالوا هذا طفل صغير كيف يخاطبنا ونخاطبه فأحضرته أمه، فقال إني عبد الله ورسوله" اهـ فلماذا قالوا إنه طفل وهو في سن النبوة؟
وأما استدلاله على ذلك بأنه جاء في الآية فعل "كان" فنقول: ألم يعرف السيد أن فعل "كان" فعل ناقص له معان: من بينها أنه يأتي على وجه الدوام،
(1)
كما في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي إنه كان ولم يزل عليما وحكيما، فيكون المعنى كيف نكلم طفلا ما زال في المهد صبيا، قال تعالى:{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} ........
(2)
.
ثامنا: وأما قول السيد: "إن المراد بقوله تعالى: {بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} أن المسيح كان يسمح لهم دخول المعابد وتقديم النذور، والمراد بقوله تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} أنه كان يخرجهم من الكفر" اهـ فهذا مجرد زعم عار من الدليل، وإذا لم تدل هذه العبارة الواضحة على شفاء المرضى وإحياء الموتى بإذن الله، فأي عبارة أوضح منها على هذا المطلوب والمقصود؟
وأي قرينة تدل على ما ذهب إليه السيد من الحقيقة إلى المجاز؟ مع أنه هو القائل: نحن المسلمين عندنا قاعدة أن اللفظ يجري على الحقيقة دائما ما لم ....
(1)
ينظر جامع الدروس العربية للغلياني: 2/ 276.
(2)
ينظر تفسير ثنائى للأمرتسري ص: 769.
وما معنى كلمة "بإذني" بعد كل فقرة؟ أليس هذا يدل على أن هذه الأفعال والأعمال كانت منة من الله على عيسى عليه السلام وقومه؟
(1)
.
تاسعا: أما اتهام السيد للعلماء بأنهم دائما يقلدون اليهود والنصارى في شرح آيات القرآن .... فقد تكرر هذا الاتهام عند السيد في كتابه، ولعله يريد بهذا أن يجعل نفسه بريئا من هذا الاتهام وهو واقع فيه، فكيف يبرئ نفسه وهو قد بيّن منهجه في الأخذ عن كتب اليهود والنصارى، وبرهن للأخذ من أهل الكتاب وكتبهم، فقال:"كما وصل إلينا القرآن متصلا بالسند المتصل فلا نجد سندا متصلا لهذه الكتب، ولذلك تقررت عندنا قاعدة أخرى للتمييز بين ما هو معتبر وما هو غير معتبر وتلكم القاعدة: هي "الشهرة"، وهذه الكتب -سواء أهي داخلة في الإنجيل بالفعل أو هي خارجة منه- تنقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: هي الكتب التي تلقاها العلماء (علماء أهل الكتاب) بالقبول ووافقوا على صحتها واشتهرت في كل المدن واشتغل العلماء بتدريسها قرنا بعد قرن ولم ينكروا عليها في زمن من الأزمان، فهذه كلها معتمدة وصحيحة (عند السيد).
الثاني: هي الكتب التي كتبها العلماء المعتبرون، وقَبِلَها أكثر العلماء وأنكرها بعضهم، أو قد كانت في زمن ما مقبولة ومقدسة عند أكثر العلماء واستدلوا بها ثم أتى عليها زمن صارت متروكة، أو هي اشتهرت في زمن وزالت شهرتها في زمن، فهذه كلها صحيحة معتمدة عندنا (عند السيد)
…
" اهـ
(2)
.
فالكتب المحرفة مهما اشتملت من الخرافات إذا اشتهرت في زمن ما هي مقبولة صحيحة يعتمد عليها السيد فهذا منهجه، ولكن الذي تقرّر عند أهل السنة والجماعة والمنهج الذي صار عليها علماء السلف في الأخذ عن أهل الكتاب هو كما يلي:
قد قسم العلماء ما ورد عن أهل الكتاب من الروايات في كتبهم إلى ثلاثة أقسام:
(1)
المصدر السابق ص: 770.
(2)
تفسير القرآن للسيد: 1/ 186.
"الأول: مقبولة: وهو ما علم صحته بالنقل الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كتعيين اسم الخضر عليه السلام، إذ ورد فيه حديث صحيح عند البخاري في صحيحه في كتاب التفسير أو ما كان له شاهد من الشرع يؤيده.
الثاني: مسكوت عنه: وهو ما لم يعلم صحته ولا كذبه امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا
…
" اهـ.
الثالث: مرفوض: وهو ما علم كذبه لتناقضه مع شريعتنا أو مخالفته للعقل، ولا يصح تصديقه ولا قبوله ولا روايته، وإذا رواه المفسر في تفسيره وجب عليه بيانه" اهـ
(1)
.
منهج سليم محكم في ضوء الكتاب والسنة، وأين السيد من هذا المنهج وهو يستند إلى كل باطل إذا اشتهر، فكيف يتهم العلماء بأنهم يقلدون أهل الكتاب؟ ونحن نترك القارئ ليقارن بين المنهجين ثم ليحكم من المقلد لأهل الكتاب؟ أَسَيِّدٌ هو المقلد أم علماء السلف؟
(1)
مقدمة تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 19.