الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحليل العبارات وتعيين الشبهة
بعد أن كان الأمر متفقا عليه بين الشرائع السماوية بأن الحياة البرزخية والحباة الأخروية وما يحصل فيها من نعيم وعذاب معنويان وحسيان يطرءان على الأرواح والأبدان ظهر رجل من اليهود يقال له موسى بن ميمون قد أنكر أن يكون في المعاد لذات حسية جسمانية.
قد أشار إليه العلامة الشوكاني رحمه الله بعد أن نقل نصوصًا من التوراة والإنجيل تدل على المعاد الجسماني وقال:
"ولم يسمع عن أحد منهم (أي من الأنبياء وأتباعهم)، أنه أنكر ذلك قط، ولكنه ظهر رجل من اليهود زنديق يقال له موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي
(1)
، فوقع عنه كلام في إنكار المعاد، واختلف كلامه في ذلك، فتارة يثبته وتارة ينفيه، ثم هذا الزنديق لم ينكر مطلق المعاد، إنما أنكر بعد تسليمه للمعاد أن يكون فيه لذات حسية جسمانية، بل لذات عقلية روحانية. ثم تلقى ذلك عنه من هو شبيه به من أهل الإسلام كابن سيناء
(2)
، فقلده، ونقل عنه ما يفيد أنه لم يأت في الشرائع السابقة على
(1)
موسى ابن ميمون (529 - 601 هـ / 1135 - 1204 م): موسى ابن ميمون بن يوسف بن إسحاق أبو عمران القرطبي طبيب فيلسوف يهودي، ولد وتعلم في قرطبة، وتنقل مع أبيه في مدن الأندلس، وتظاهر بالإسلام، دخل مصر فهاد إلى يهودية، وأصبح رئيسا روحيا لليهود، وأقام في القاهرة 37 عاما إلى أن مات. (ينظر الأعلام للزركلي: 7/ 329).
(2)
ابن سيناء (370 - 428 هـ / 980 - 1037 م): هو الحسين بن عبد الله أبو علي شرف الملك الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبعيات والإلهيات، أصله من بلخ، ومولده في إحدى قرى من قرى بخارى، نشأ وتعلم في بخارى، وطاف البلاد، وناظر العلماء، واتسعت شهرته، وتقلد الوزارة في همذان، وثار عليه عسكرها، فتوارى ثم صار إلى إصفهان، صنف بها أكثر كتبه وعاد في أواخر أيامه إلى همذان، فمرض في الطريق ومات بها.
قال ابن القيم الجوزية: كان ابن سيناء -كما أخبر نفسه- هو وأبوه من أهل دعوة الحكام، من القرمطة الباطنية، وقال ابن قتيبة: تكلم ابن سيناء في أشياء من الإلهيات والنبوات والميعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم (ينظر الأعلام للزركلي: 2/ 241).
الشريعة المحمدية إثبات المعاد، وتقليدًا لذلك اليهود الملعون الزنديق مع أن اليهود أنكروا عليه هذه المقالة، ولعنوه، وسموه كافرًا
(1)
.
ثم تلقى هذه الشبهة فلاسفة الغرب وعلماء الاستشراق إذ كانت صالحة ومناسبة لإنكار الغيبيات التي كانت صدمة أمام المنهج التجريبي في معامل الغربية المادية، ومن ثم اجتاز لهم الطعن في الإسلام بأنه دين شهواني لأنه يَعِدُ أتباعه بملذات شهوانية في الآخرة، كما يظهر هذا الاتجاه في قول أمير علي السابق عندما قال: ولكن الزعم بأن النبي العربي وَعَدَ أتباعه بجنة مليئة بالشهوات والحور العين ....
وهكذا عرض أمير علي هذه الفكرة كشبهة ثم حاول الرد عليها متنازلًا عن بعض ما عنده من الحق من تصوير القرآن عن الحياة الآخرة بصور حسية، فأنكر هذه الحقيقة وقال: في هذا القدر كفاية في دحض ما افتراه القائلون بأن القرآن صور الحياة الآخرة بصورة حسية، ودلل على ذلك ببعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي}
(2)
(3)
فأوَّل الوصف القرآني الحقيقي الجنة والنار إلى أنه وصف مستمد من واقع الحياة.
ثم أثار شبهة تطور الوحي في بيان وصف الجنة حيث قال: فالسور المكية تشتمل على الأوصاف الجميلة المادية في شأن الفردوس ولكن ينمو الوعي الديني على مر السنين وبارتقاء المسلمين في إدراك المعاني الروحية بالمدينة اصطبغت المعاني التي اتخذت مظهرًا ماديًا في البداية بصفة روحية
(4)
.
(1)
إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع للشوكاني: 14.
(2)
سورة الفجر: 6 - 7.
(3)
روح الإسلام لأمير علي: 2/ 77.
(4)
المرجع السابق: 2/ 56 - 57، 25/ 180.
وأكبر دليل أو متمسك عنده آية في سورة الفجر: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي}
(1)
وهي مكية، وهذا ينقض أساس التطور في الوحي، إذ أن الوصف النفساني قد نزل في مكة كما نزل في المدينة ولكن الحقيقة كما نعلم أن في الجنة ملذات مادية وروحانية، ونزل الوحي بهذين الوصفين في مكة والمدينة على حد سواء.
وقد سبقه أستاذه سيد أحمد خان في إثارة هذه الشبهة ولكنه كان زكيًا في تناوله هذه الشبهة فإنه لم يشر أدنى إشارة إلى أن هذه الشبهة واردة من الخارج، بل قسم الأمة إلى قسمين: فجعل أتباع موسى بن ميمون الزنديق اليهودي أمثال: ابن سيناء ومن شابهه من المعتزلة والجهمية الذين أنكروا المعاد الحسي من أصحاب العقول المستنيرة، وبمقابلتهم جعل علماء الدين الزهاد من المحدثين والمفسرين من أصحاب العقول المتحجرة واتهمهم بأنهم شهوانيون لأنهم آمنوا بوجود اللذات الحسية في الجنة، وشبه الجنة التي أعد الله فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر بقلب بشر بأنها تشبه بيوت الدعارة نسأل الله العافية من الزيغ في الفكر.
وأما إقبال فتأثرُهُ بالمناهج الغربية الاستشراقية واضحة جدا في هذا الصدد، حيث صرح بأنه أخذ رأيه هذا في البرزخ من نظرية "هلمهولتس" (Helm Holtz) القائلة:"إن الأعصاب إذا هاجت لا تشعر إلا بعد مدة قليلة" اهـ.
فقال: "حالة البرزخ هو حالة تطرأ على النفس عند هيجان الأعصاب بسبب اختلال شديد في نفس الإنسان ..... " اهـ
(2)
. حتى قال: "إن البعث بعد الموت ليس حادثا خارجًا عن الإنسان إنما هو المحاسبة النفسية على عمل سابق التي يشعر بها الإنسان داخله، لتستكمل حياته العملية في المستقبل" اهـ
(3)
.
(1)
سورة الفجر: 6 - 7.
(2)
تشكسل جديد لإقبال: 181.
(3)
المرجع السابق: 182.