الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن تخلف أحد هذه الشروط الثلاثة لا يصح نسبة هذا القول إلى رسول صلى الله عليه وسلم أو أنه حديث من أحاديثه" اهـ
(1)
.
وهذه الشروط الثلاثة لا تنطبق إلَّا على المتواتر اللفظي وأما المتواتر المعنوي، والآحاد الصحيحة الثابتة التي عليها مدار العقيدة والأحكام قد ألغاها إلغاءً تامًا، وبناء على موقفه هذا جعل الأحكام الواردة عن طريق السنة بوجه عام أحكامًا لا يجب على المسلمين اتباعها ولا يلزم العمل بمقتضاها، وهكذا قد حاولوا نزع السلطة التشريعية عن صاحبها صلى الله عليه وسلم.
إذن الشبهة متعددة الأطراف وهي ترتكز حول نزع السلطة التشريعية عن صاحبها صلى الله عليه وسلم. فنذكر كل طرف منها ثم ننقده.
تفنيد الشبهة:
شبهة نزع السلطة التشريعية عن صاحبها صلى الله عليه وسلم
.
والرد على هذه الشبهة يكون من وجوه:
أولا: قول جراغ علي: "وفي الحقيقة إن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا لا يريدون كتابتها ...... " اهـ.
فنرد عليه بقولنا إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكتبون السنة ويحفظونها ويدل على ذلك الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم: عن عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ..... " اهـ
(2)
.
عن أنس أن أبا بكر رضى الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله
(1)
ينظر مقالات سيد أحمد خان 1/ 33 - 34.
(2)
سنن أبي داود (3646)، ومسند أحمد (6474، 6763)، وسنن الدارمي (484).
صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها ومن سأل فوقها فلا يعط ........ وذكر أنصبة الزكاة في الماشية وذكر نصاب الفضة
(1)
.
وعن عبد الملك بن ورَّاد (كاتب المغيرة) قال: "كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليّ ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وكتب إليه: أنه كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وكان ينهى عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات
(2)
.
وأما أحاديث النهي المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد كلها لم تخل من مقال الّلهم إلا حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه، مع ما فيه من وجود من أعلَّه بالوقف، ثم إنه على فرض أن الصواب رفعه، فإن حديث أبي هريرة رضى الله عنه "اكتبوا لأبي شاة" متأخر عنه كما بين ذلك أحمد شاكر
(3)
.
وأما أحاديث الإباحة المرفوعة فهي كثيرة، مما ذكر منها من قبلُ كله صحيح، وهي دلائل واضحة على إباحة الكتابة منه صلى الله عليه وسلم بل إن حديث ابن عباس رضى الله عنهما "ايتوني بكتاب أكتب لكم .... " دليل واضح على أن ذلك كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم، إن الصحابة الذين رُوي عنهم النهي أو
(1)
صحيح البخاري مع الفتح (7292).
(2)
المصدر السابق: 13/ 264 (7292).
(3)
ينظر الباعث الحثيث لأحمد شاكر: ص: 128.
الامتناع من الكتابة قد ثبت عنهم الإذن بالكتابة إلا أبا موسى الأشعري رضى الله عنه على أن ما روى عنه في النهي ضعيف لا يحتج به
(1)
.
ثانيا: وأما قول جراغ علي عن المحدثين: "بأن تحقيقهم هذا لم يكن مبنيا على أسس تاريخية وعقلية .... إنما نظروا إلى اتصال السند وعدمه .... وأما تحقيق الرواية من حيث المتن فتركوه لغيرهم
…
" اهـ.
فنرد عليه بقولنا: المنهج التاريخي الحديث نفسه مستمد من منهج المحدثين لنقد الروايات، يقول الدكتور قنديل محمد قنديل رحمه الله عز وجل: "وفي المجال التاريخي في القديم كان يُعتمد في نقد الأحداث التاريخية على مجرد الرواية دون أن يكون هناك منهج علمي محدد تنتقد على أساسه الروايات، استمر الحال على ذلك إلى أن وضعت خطوات وأسس في العصر الحديث لنقد الروايات التاريخية مستمدة من منهج النقد للروايات الحديثية عند المحدثين
(2)
.
وقد ذكرنا هذه الخطوات مع الإشارة إلى عمل المحدثين الذي أخذت منه هذه الخطوات عند ذكر مناهج المستشرقين
(3)
.
ثالثا: وأما قول جراغ علي: "إن المحدثين إنما نظروا إلى اتصال السند وتركوا دراسة المتن" اهـ.
فهذه فرية أخرى قد أثارها أعداء الإسلام ومن سلك مسلكهم للطعن في الحديث، ومن ثم الطعن في منصب النبي صلى الله عليه وسلم التشريعي.
فنرد على هذه الفرية بقولنا: "إن صحة إسناد الحديث لا تعني (في اصطلاح المحدثين) صحة الحديث، لأن من شروط الصحيح ألا يكون شاذًا ولا معللًا.
(1)
كتابة الصحابة رضى الله عنهم للحديث النبوي بين المسلمين والمستشرقين بحث مكمل لنيل درجة الماجستيرلـ أقونع أفندي - 1408 - 1409 قسم الاستشراق- جامعة الإمام. ص 69 - 70، وينظر موقف المدرسة العقلية 2/ 114.
(2)
ينظر النقد الأعلى للكتاب المقدس لـ د. قنديل محمد بتصرف ص: 4.
(3)
ينظر من هذا البحث المنهج التاريخي ص: 111.
والشذوذ والعلة يكونان في السند كما يكونان في المتن، فقد يصح إسناد حديث ويكون في متنه علة قادحة تقدح في صحته وهكذا الشذوذ، ولذا لم تكن دراستهم قاصرة على الأسانيد وإنما بحثوا في علل المتون وشذوذها، ومن ذلك كتب المصطلح وكتب العلل وهو كثيرة.
وهناك كثير من علوم الحديث لم يكتف فيها بدراسة الإسناد فقط، بل يدرس الإسناد والمتن جميعًا، فمن ذلك: الحديث المقلوب والمضطرب، والدرج والمعلل والمصحَّف والموضوع وزيادة الثقة.
كما أنشئت علوم كثيرة تتعلق بدراسة المتن خاصة من ذلك غريب الحديث، أسباب وروده، ناسخه ومنسوخه، مشكله، ومحكمه
(1)
.
ومما يدل على أن المحدثين اجتهدوا في نقد المتن -كما اهتموا بنقد السند- ما وضعوه من علامات وضوابط يعرف بها وضع الحديث لمجرد الرجوع إلى متنه ومن ذلك: ركاكة اللفظ في المروي، وفساد المعنى، ومخالفة الحديث لنص القرآن أو السنة المتواترة، وما دل على تواطؤ الصحابة على كتمان أمر وعدم نقله، وما خالف الحقائق التاريخية التي جرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. واختبر بقرائن دلت على بطلانه، ما وافق مذهب الراوي وهو غالٍ فِى تعصبه، وما كان عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله، وما اشتمل على مجازفات وإفراط في الثواب العظيم على الأمر الصغير أو وعيد عظيم على فعل يسير، هذه وغيرها من الضوابط قد جمعها الشيخ الأمين الصادق الأمين من كتب علوم الحديث
(2)
.
ولما سئل الإمام ابن القيم رحمه الله هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟ قال: "فهذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة،
(1)
ينظر منهج النقد في علوم الحديث، لنور الدين العِتْر، دار الفكر 310 - 319.
(2)
موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية للأمين الصادق: 2/ 174 - 175.
وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعوا إليه، ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه.
فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز: ما لا يعرفه غيره وهذا شأن كل متبع مع متبوعه، فإن للأخص به، الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح ما ليس لمن لا يكون كذلك" اهـ
(1)
.
رابعًا: أما قول جراغ علي: "إن الحديث مهما كان مستندًا قويًا محكمًا فلا اعتبار له إذ لا يحصل منه العلم اليقينيّ" اهـ.
فقبل أن نفند زعم جراغ علي نقول:
شبهة كون الحديث ظنيّ الثبوت والدلالة كالن أكبر متمسك تمسك به المستشرقون والمستغربون للطعن في الحديث ومن ثم حاولوا نزع منصب التشريع من صاحب التشريع صلى الله عليه وسلم، وازدادت الشكوك إثارة لما نقلوا الكلمة "الظنية" إلى الانجليزية بقولهم:(doubtful)
(2)
.
وأما الرد فعلى النحو التالي:
(1)
المنار المنيف لابن القيم الجوزية: حققه وخرج نصوصه وعلق عليه عبد الفتاح أبو غدة: الناشر، المكتبة المطبوعة الإسلامية، ، حلب مطابع دار القلم الطبعة الأولى 1390 هـ - 1970 م ص: 43 - 44.
(2)
ينظر دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة للمستشرق موريس بوكاي ص: 277 - 281، فيقول طاعنا في أحاديث الطب في صحيح البخاري:"وليس هناك أدنى شك في أن هذه الصفحات تحتوي على الكثير من الأحاديث الظنية (doubtful) .. " وقد تناول هذه الفرية بالردّ والتفنيد الدكتور عبد الله الرحيلي في مذكرته "ضوابط لمناقشة شبهات المستشرقين" ص: 27 - 30.
1 -
لا يجوز أن يكون الخبر الذي تعبد الله به الأمة، وتعرف به إليهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كذبًا وباطلًا، لأنه من حجج الله على عباده، وحجج الله لا يمكن أن تكون كذبا وباطلًا
(1)
.
(ولكن)"لما أظلمت القلوب وعميت البصائر بالإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وازدادت الظلمة بالاكتفاء بآراء الرجال، التبس عليها الحق بالباطل، فجوزت على أحاديثه الصحيحة التي رواها أعدل الأمة وأصدقها أن تكون كذبًا، وجوزت على الأحاديث الباطلة المكذوبة المختلقة التي توافق أهواءها أن تكون صدقًا فاحتجت بها" اهـ
(2)
.
2 -
لقد تكفل رب العالمين بحفظ دينه كله، وإظهاره على الأديان كافة، ولذلك فضح الله من كذب على رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته.
قال سفيان ابن عيينة:
(3)
"ما ستر الله أحدًا يكذب في الحديث" اهـ
(4)
.
وقال ابن المبارك: "لو همَّ رجل أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب" اهـ
(5)
.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم أن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد ولا يثبت بها شيء من صفات الله، زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد لا بد فيها من اليقين
(1)
ينظر مختصر الصواعق المرسلة لمحمد بن موصل ص: 479.
(2)
المرجع السابق ص: 479.
(3)
سفيان ابن عيينة: هو سفيان ابن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي مولاهم، أبو محمد، الكوفي ثم المكي، الأعور، أحد الأعلام، ثقة حافظ إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخره، وربما دلس ولكن عن الثقات (الجرح والتعديل 4/ 225 - 227).
(4)
مختصر الصواعق المرسلة ص: 485.
(5)
ينظر المرجع السابق ص: 485، وشرح العقيدة الطحاوية ص: 355 - 356.
باطل لا يعول عليه، ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل" اهـ
(1)
.
خامسا: وقد ادعى جراخ علي: "أن الحديث مهما كان مستندًا قويًا محكمًا فلا اعتبار لها".
إن قصد به الأحاديث المتواترة فلا حاجة لنا للخوض معه في إثبات حجية المتواتر، لأنه مفروغ عنه ومعترف به عند جميع الفرق الإسلامية، وأما إذا قصد به أحاديث الآحاد فقوله: بأن أحاديث الآحاد لا تفيد العلم اليقيني ليس موضع اتفاق بين العلماء بل الخلاف بينهم قائم في ذلك، فجمهور الأصوليين على أنه يفيد الظن، وذهب جمهور أهل الحديث وأهل الظاهر وجماعة من العلماء على أنه يفيد العلم اليقيني، وذهب جماعة آخرون على أنه يفيد العلم إذا احتفت بالقرائن
(2)
.
والذي يترجح من أقوال العلماء وتطمئن له النفس أن حديث الآحاد متى ثبتت روايته ولم يكن فيه طعن فإنه يفيد العلم اليقيني
(3)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما نقله عنه ابن القيم: "فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء، وكذلك لا يعتد في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث
(1)
مذكرة في أصول الفقه لمحمد الأمين بن المختار الشنقيطي، مطابع التوحيد. ص:105.
(2)
المرجع السابق ص: 103.
(3)
ينظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 108 - 119، وأصول الفقه لابن تيمية: 2/ 561 - 562.
العالمون بأحوال نبيهم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم" اهـ
(1)
.
وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله ومن قال بقوله من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي سواء كان في أحد الصحيحين أم في غيرها، وهذا العلم اليقنّي علم نظري برهاني، لا يحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل.
وهذا العلم اليقيني النظري يبدو ظاهرًا لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته، واطمأنت قلبه إليها. ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن، فإنما يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد" اهـ
(2)
.
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: والحق الذي نراه ونعتقده أن كل حديث آحادي صحيح تلقته الأمة بالقبول من غير نكير منها عليه أو طعن فيه فإنه يفيد العلم واليقين، سواءً كان في الصحيحين أو في غيرهما: وأما ما تنازعت الأمة فيه، فصححه بعض العلماء وضعفه آخرون فإنما يفيد عند من صححه الظن الغالب فحسب. والله أعلم اهـ
(3)
.
سادسا: أما قول إقبال: "لما كانت هذه الأحكام ليست مقصودة لذاتها فلا يمكن أن تفرض بحرفيتها على الأجيال المقبلة .... " إلى أن قال "
…
ولعل هذا هو السبب في أن أبا حنيفة .... لم يكن يعتمد على الأحاديث" اهـ.
فهذه محاولة من إقبال لإلغاء التشريع الجنائي المذكور في الأحاديث النبوية من الشريعة الإسلامية.
إن صلاحية قانون الإسلام لكل زمان ومكان وتطبيقه على حرفيته بدون تغيير وتبديل هي ميزة من مزايا الإسلام التي لا توجد عند أي دين من الأديان، إذ أن
(1)
ينظر مختصر الصواعق المرسلة ص: 472 - 486.
(2)
الباعث الحثيث لأحمد شاكر ص: 37.
(3)
الحديث حجة بنفسه للألباني ص: 15.
القاعدة المطبقة المستقرة في شريعتنا الإسلامية، ينبثق استقرارها من صلاحيتها لكل زمان ومكان، فهي لا تتقيد ولا تتبدل بتغيير الأزمنة والأمكنة، لأنها تراعي المصالح الأساسية لكل مجتمع يقوم على وجه الأرض، ولا يمكن أن تعتبر صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان دليلًا على جمودها كما يدّعي أعداء الإسلام، بل هي أصدق دلالة على كمالها الذي يبحث عنه فقهاء التشريع في كل العصور.
وفي هذا يقول أحد علماء الاجتماع القانوني في أمريكا اليوم "روسكو باوند"(Roscoe pund) والذي تولى القضاء في محكمتها العليا وأستاذية فقه القانون بجامعة هارفارد بأمريكا أعوامًا طويلة، في مقدمة كتابه "القواعد الأساسية لعلم الاجتماع القانوني" الذي ألَّفه "يوجين ألريك" (Eugene Elrick) بعد بحث مستفيض في طبيعة القانون:
"إن البحث استمر قرونًا طويلة من الزمان للوصول إلى حل لمشكلة إيجاد التوازن بين الاستقرار في القاعدة القانونية وإلى الحاجة إلى التغيير وهو الأمر الذي نعتبره المشكلة الأساسية في النظام القانوني ........ وإن محاولات قد بذلت للربط بين هذه الضروريات الماسة لقيام النظام القانوني وبين نوع من نظام عالمي للقانون، يعبر عن المثل العليا التي ينبغي أن تقوم، والتي ينبغي أيضًا أن تتحقق، وحين تتحقق هذه المحاولات يصبح بين أيدينا بالفعل، في النهاية قانون مثالي كامل، ولا بد أن يكون كذلك عامًا في كل مكان وفي كل زمان صالحًا للتطبيق في كل مكان يسكنه البشر" اهـ
(1)
.
فالمطلوب الإشارة إلى الاستقرار في القانون مطلب يسعى إلى الوصول إليه علماء القانون في أمريكا وكذلك في غير أمريكا، فيحاولون إيجاد نظام عالمي عام صالح للتطبيق بالفعل في كل زمان ومكان وعلى كل جنس من البشر، وهم يبحثون
(1)
Fundamental principles of Sociology of law by Russel. New York 1962 Introduction by Roscoe pound، p.p 30، 31
ويكدون في البحث عن وجود هذا النظام القانوني الذي يمكن بالفعل تطبيقه وقبوله على حرفيته، بدون تغيير وتبديل في كل مجتمع وهذه الخاصة لم توجد إلا في القانون الإسلامي، ولكن إقبالًا لم يطب له هذه الميزة في القانون الإسلامي خوفًا من أن يوصف دينه بالجمود أو الوحشية، فادعى بأن الأحكام الخاصة بعقوبات الجرائم لا يمكن أن تفرض بحرفيتها على الأجيال المقبلة، فيريد أن يغير القانون السماوي كما غيره النصارى واليهود، وقد حذر من ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة رضى الله عنها: "إن امرأة من بني مخزوم سرقت، فقالوا من يكلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلم يجترئ أحد أن يكلمه فكلمه أسامة بن زيد، فقال إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه لو كانت فاطمة (بنت محمد) لقطعت يدها" اهـ
(1)
.
لو لم تكن هذه الأحكام مقصودة بذاتها لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كانت فاطمة (بنت محمد صلى الله عليه وسلم لقطعت يدها".
سابعا: وأما قول إقبال: "من الصعب أن تفرق بين الأحاديث التي تدخل في إطار القانون وبين تلك التي جاءت كعادات جاهلية .... " اهـ.
فهذه محاولة أخرى من إقبال لإلغاء العمل بالأحاديث النبوية الثابتة الصحيحة.
وعلل على ذلك بقوله: "هذه الحقيقة صعب إدراكها لأن الفقهاء المتقدمين لم يفرقوا بين هذه وهذه .. " اهـ.
فنرد على هذا بقولنا: إن الله عز وجل قيض لهذه الأمة ولدينها جهابذة من الفقهاء والمحدثين الذين صنفوا الأحاديث على أبواب الفقه وبينوا أحكامها، وميزوا بين الناسخ والمنسوخ والمحكم وغير المحكم، وذكروا أسباب ورود الأحاديث وتاريخ وقوعها بكل دقة وأمانة.
(1)
صحيح البخاري مع الفتح: 7/ 87 - 88 (3733).
قال ابن القيم رحمه الله: "إن الله سبحانه نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم منصب المبلغ المبين عنه فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن الله أن هذا شرعه ودينه، ولا فرق بين ما يبلغه منه من كلامه المتلو ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع ومخالفة هذا كمخالفة هذا" اهـ
(1)
.
والبيان الذي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قسمه العلماء وبينوا علاقته بالشرع حتى لا يبقى لشاكِّ من صعوبة في تمييز الأحاديث التي جاءت كعادات والتي جاءت كأحكام قانونية.
قال ابن القيم رحمه الله: إن البيان من النبي صلى الله عليه وسلم على أقسام:
أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيًا.
الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك كما بين أن الظلم المذكور في قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} هو الشرك، وأن الحساب اليسير هو العرض ....
الثالث: بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله.
الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن فنزل القرآن ببيانها، كما سئل في قذف الزوجة فجاء القرآن باللعان ونظائره.
الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنًا كما سئل عن رجل أحرم في جبة بعد ما تضمخ بالخلوق فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة ويغسل أثر الخلوق.
السادس: بيان للأحكام بالسنة ابتداء من غير سؤال، كما حرّم عليهم لحوم الحمر والمتعة وصيد المدينة ونكاح المرأة على عمتها وخالتها وأمثال ذلك.
السابع: بيانه للأمة جواز الشيء بفعله هو له وعدم نهيهم عن التأسي به.
(1)
أعلام الموقعين لابن القيم: 2/ 224.
الثامن: بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده أو يعلمهم يفعلونه.
التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوًا بالسكوت على تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقًا.
العاشر: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته، ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأقوال وأوصاف، فيحل الرب سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيانها كقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
(1)
(2)
.
ثامنا: أما قول إقبال بإن أبا حنيفة
…
لم يكد يعتمد على الأحاديث فهذا اتهام صريح على هذا الإمام الجليل الذي قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وجعل الأخذ بالسنة بعد كتاب الله، من أصوله في استباط الأحكام
(3)
.
بعد هذا التقسيم الدقيق لسنن النبي صلى الله عليه سلم هل يبقى لشاكِّ حجة لترك اتباع سننه صلى الله عليه وسلم زاعما بأن الفقهاء المتقدمين لم يميزوا بين الأعراف والسنن؟
وبالجملة حصلت في الهند فتنة إنكار الحديث، وكان هذا الإنكار على قسمين: الإنكار الكلي والإنكار الجزئي، أما الإنكار الكلي فحصلت من فرقة منكري السنة، ولنا مع هذه الفرقة وقفات خاصة في الفصول القادمة إن شاء الله تعالى
(4)
.
وقد تعرضنا للإنكار الجزئي في الصفحات السابقة عند جراغ علي، ومحمد إقبال، وشبلي النعماني، وسيد أحمد خان والشيخ أبي الأعلى المودودي، ولا يسعنا المجال أن نتناول جميع الشبهات والرد عليها إذ هو موضوع طويل يحتاج إلى سجل خاص.
وبالإضافة إلى ما ذكرنا من ردود فإنا نشير إلى بعض المؤلفات التي تناولت هذا الموضوع ردًّا وتفنيدًا بالتفصيل:
(1)
سورة النساء: 24.
(2)
أعلام الموقعين لابن القيم: 2/ 225 - 226.
(3)
ينظر لتفصيل ذلك ص: 634 في هذا البحث.
(4)
ينظر ص: 575 وما بعدها في هذا البحث.
وقد قام بالرد على شبهات سيد أحمد خان الشيخ صلاح الدين مقبول أحمد في كتابه "زوابع في وجه السنة قديمًا وحديثًا"
(1)
والشيخ الدكتور خادم حسين الهي بخش في كتابه "أثر الفكر الغربي في انحراف المجتمع المسلم بشبه القارة الهندية"
(2)
.
وأما الأستاذ المودودي فقد تناول بشبهاته قديمًا الشيخ أبو الوفاء ثناء الله الأمرتسري في رسالة سماها "خطاب بمودودي" نشرتها ثنائي برقي بريس أمرتسر الهند سنة 1946 م / 1365 هـ، وحديثًا تناول شبهاته الشيخ صلاح الدين مقبول أحمد في كتابه "زوابع في وجه السنة"
(3)
كما أشار إلى مزاعم الأستاذ المودودي د. الأمين الصادق الأمين في كتابه "موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية"
(4)
. كما تناول موقف الجماعة الإسلامية عامة وموقف الأستاذ المودودي من السنة بالتفصيل الشيخ محمد إسماعيل في كتابه "موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي"
(5)
.
وأما الشبلي النعماني فقد رد على مزاعمه الشيخ المحدث عبد العزيز رحيم آبادي في كتابه "حسن البيان فيما في سيرة النعمان" نشرته مكتبة مولانا ثناء الله الأمرتسري دلهي الهند ط/ 4 - 1984 م -1404 هـ.
وخلاصة القول إن السيد والشبلي وإقبالًا والمودودي مع خدماتهم الجليلة للدين الإسلامي كانوا ممن فتحوا باب الإنكار الجزئي للحديث النبوي، أما الأولون (السيد والشبلي وإقبال) فيدل على تأثرهم بالاستشراق منهجهم العقلي إذ أنهم كانوا من أولئك العقلانيين الذين تأثروا بالاستشراق الغربي، فأنكروا كل شيء لم تدرك عقولهم، واختاروا طريق التأويل البعيد وأسموا هذه العملية بالمنهج الطبيعي أو الفطري
(1)
ينظر ص: 72 وما بعدها.
(2)
ينظر ص: 353 وما بعدها.
(3)
ينظر، مجمع البحوث العلمية دلهي الهند ط / 1، 1991 م / 1411 هـ: ص: 85 - 171.
(4)
ينظر 2/ 394 وما بعدها.
(5)
عرّبه وقدّمه وعلّق عليه صلاح الدين مقبول أحمد، الدار السلفية الكويت ط / 1، 1407 هـ / 1986 م.
هذا عند السيد، أما الشبلي فسماها دراية، وقد راج المصطلح الأول في أوساط المثقفين بالثقافة الغربية، ولكن وُجد النفور عند علماء الدين، أما المصطلح الثاني الذي اختاره الشبلي والذي كان مقبولًا في القديم مع اختلافه في المعنى قد تلقى قبولًا عند الجميع
(1)
.
وأما الشيخ المودودي فلا نقول أنه تأثر بالاستشراق الغربي بل أراد أن يرد على العقلانيين بمناهجهم فوقع فيما وقعوا فيه، وقد سمى هذه العملية بـ "مسلك الاعتدال"
(2)
، وقد راج هذا المصلح أيضا في المعاصرين.
فكل من السيد والشبلي والمودودي قد يلمحون إلى استنادهم بالأصلين المشهورين اللذين قد راجا عند جماهير علماء الأمة عفوًا وسهوًا، فأولهما:"الآحاد لا يحتج بها في العقائد". والثاني: "الآحاد تفيد الظن ولا تفيد اليقين" وعلى هذين الأساسين أثاروا شبهات حول منهج المحدثين فأوّلوا أحاديث بل ردوها مع كونها مروية بأسانيد صحيحة، فردوا الأحاديث التي جاء فيها ذكر المعجزات والغيبيات هذا عند السيد والشبلي، وأما الشيخ المودودي فقد أوّل أحاديث
(3)
منها: حديث
(1)
ينظر حسن البيان للشيخ عبد العزيز محمدي رحيم آبادي ص: 30 - 32، ومقدمة محمد إسماعيل السلفي ص: 29 - 32.
(2)
ينظر الرسائل والمسائل للمودودي 1/ 219 - 235، ويقول الشيخ إسماعيل السلفي عن عملية الشيخ المودودي هذه:"وخاصة مقاله "مسلك الاعتدال" الذي أبدى فيه آراء مضطربة في ظنية خبر الآحاد، ومنح حق الحكم على الحديث تصحيحا وتضعيفا وبدون التقيد بالقواعد المتبعة لدى أئمة الصنعة، وخرج على منهج المحدثين، ونظر إليه بنظر الريبة والشك، ينشئ جراثيم لرفض الحديث، ويفتح أبوابا سرية إلى إنكاره، أمام أصحاب العقول المريضة، والأفكار السقيمة، الذين يبحثون عن كلمة سوء في الحديث ليتخذها شبكة يصيدون بها سفهاء الأحلام، وصغار العقول. (موقف الجماعة الإسلامية للشيخ السلفي: ص 12 - 13).
(3)
مثلًا: قال الأستاذ المودودي: "هذا المسيح الدجال وغبره من الأساطير التي ليست لها أي حيثية شرعية، وأيضًا لسنا في حاجة إلى البحث عن مثل هذه الأشياء والإسلام ليس مسؤولًا عما اشتهر بين العامة من الناس من هذه الأمور، فإن ثبت بعضها خطأ لا يتضرر به الإسلام شيئًا". (الرسائل=
سليمان عليه السلام "لأطوفن الليلة على نسائي"
(1)
وحديث الجساسة
(2)
وحديث "كذب إبراهيم عليه السلام ثلاث كذبات"
(3)
.
= للمودودي 1/ 46)، وطلب من الأستاذ المودودي التوضيح عن هذه العبارة، فقال:"إن الأمر الذي تحققت منه أنه "أسطورة" هو ذلك الوهم الذي يولّد أن الدجال في مكان ما، أما عن ظهور مفتن كبير (الدجال) فأنا أقول بالأخبار الواردة فيه ولا أزال بذاك الدعاء الماثور الذي فيه، مع التعوذات الأخرى "أعوذ بك"، (الرسائل للمودودي: 1/ 46).
وقال أيضا: "وهذا المسيح الدجال هو ملك اليهود الذي يسوق معه سبعة آلاف جنديا من اليهود ويدخل في شرق دمشق
…
" اهـ (ختم نبوت للمودودي ص: 56).
قلت: هذا إنكار صريح لحديث الجساسة الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح.
(1)
صحيح البخاري 6/ 34 (2819)، كتاب الجهاد، باب من طلب الولد للجهاد.
(2)
صحيع مسلم (2942).
(3)
ينظر صحيح البخاري مع الفتح 8/ 395 (4712).