الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: مباينة الخالق عن الخلق
وقد بينا فيما سبق أن الله عز وجل فوق سبع سماوات مستو على عرشه العظيم، وفي هذا المطلب سنبين أن الله عز وجل مباين عن خلقه ليس مختلطا بهم ولا متحدا معهم، كما هو اعتقاد أهل السنة وأئمتهم قاطبة، بل هو اعتقاد جميع الأنبياء والرسل، والفطر مفطورة على ذلك، ودلت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وهنا نشير إلى بعض منها:
أولًا: أسماؤه الحسنى الدالة على ثبوت جميع معاني العلو له تبارك وتعالى كالأعلى والعلي والظاهر والقاهر وغيرها، قال تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}
(1)
وقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}
(2)
وقال: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}
(3)
وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}
(4)
.
ثانيًا: التصريح باستوائه على عرشه كما سبق ذكرها
(5)
.
ثالثًا: التصريح بالفوقية لله تعالى: قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}
(6)
وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
(7)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة: "لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة" اهـ
(8)
وكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي
(1)
سورة الأعلى: 1.
(2)
سورة النساء: 34.
(3)
سورة الحديد: 3.
(4)
سورة الأنعام: 18.
(5)
كما سبق في مطلب "حقيقة الإستواء".
(6)
سورة الأنعام: 18.
(7)
سورة النحل: 50.
(8)
الأرقعة: السماوات هذا اللفظ عند ابن هشام في السيرة 3/ 146 والأصل في صحيح مسلم: 6/ 335 (1768).
الله عنها تفتخر على بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: "زوّجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات" اهـ
(1)
.
رابعًا: التصريح بأنه تعالى في السماء: قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17} فستعلمون كيف نذير}
(2)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءًا" اهـ
(3)
.
ومن ذلك قول الجارية لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ " قالت: في السماء قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" اهـ
(4)
.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة
(5)
من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله" اهـ
(6)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها
(7)
.
(1)
صحيح البخاري مع الفتح: 13/ 403 - 404 (7420).
(2)
سورة الملك: 16 - 17.
(3)
صحيح البخاري مع الفتح: 8/ 67 (4351).
(4)
صحيح مسلم مع الشرح: 1/ 382 (538).
(5)
شجنة: عروق الشجر المشتبكة، وهنا أن الرحم مشتقة من الرحمن.
(6)
سنن الترمذي: 3 - 4/ 323 - 324 (1924)، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
(7)
صحيح مسلم مع الشرح: 5/ 259 (1436).
خامسًا: التصريح بالرفع والصعود والعروج وهو أنواع: منها رفعه عيسى عليه السلام. قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}
(1)
.
ومنها صعود الأعمال إليه: قال الله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
(2)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يصعد إلى الله إلا الطيب- فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه ثم يربّيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل" اهـ
(3)
.
ومنها صعود الأرواح إلى الله عز وجل: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل في قبض أرواح المؤمنين، قال:"فيصعدون بها (بالأرواح) .... " حتى قال: "حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة، فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى" اهـ
(4)
.
ومنها عروج الملائكة والروح إليه قال الله تبارك وتعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}
(5)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين يأتوا فيكم فيسألهم -وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" اهـ
(6)
.
(1)
سورة النساء: 158.
(2)
سورة فاطر: 10.
(3)
صحيح البخاري مع الفتح: 3/ 278 (1410).
(4)
مسند أحمد: 4/ 287 - 288، 35.
(5)
سورة المعارج: 3 - 4.
(6)
صحيح البخاري مع الفتح: 2/ 33 (555).
ومنها معراج النبي صلى الله عليه وسلم: فصعد إلى ربه حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، وإلى حيث شاء الله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " .... فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا .... ثم صعد حتى أتى السماء الثانية ..... ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح .... ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح .... ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح
…
ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح .... ثم صعد بي حتى أتى السماء السابعة فاستفتح .... ثم رفعت إلي سدرة المنتهى
…
" اهـ
(1)
.
سادسًا: التصريح بتنزيل الملائكة والروح من الله ونزول الأمر منه وتنزيل الكتاب منه عز وجل: قال الله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
(2)
(3)
(4)
وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}
(5)
وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}
(6)
.
سابعًا: إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلو في خطبته في حجة الوداع بإصبعه وبرأسه، فقال النبي صلى لله عليه وسلم: "قد تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس،
(1)
صحيح البخاري مع الفتح: 7/ 201 - 202 (3887).
(2)
سورة النحل: 2.
(3)
سورة الطلاق: 12.
(4)
سورة القدر: 1 - 4.
(5)
سورة الزمر: 2.
(6)
سورة الشعراء: 193.
اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات
(1)
هذا عند أبي داود وعند البخاري ثم رفع رأسه فقال اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت
…
" اهـ
(2)
.
ثامنًا: تكذيب فرعون لموسى في أن رب السموات والأرض فوق جميع خلقه مباينًا لهم لا تخفى عليه خافية فقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}
(3)
.
وبالجملة "فجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام وجميع كتبه المنزلة وجميع أهل السموات ومؤمني أهل الأرض من الجن والإنس أتباع رسل الله وجميع الفطر السليمة والقلوب المستقيمة التي لم تحتلّها الشياطين عن دينها جميعها شاهدة حالًا ومقالًا أن خالقها وفاطرها ومعبودها الذي تألهه وتفرع إليه وتدعوه رغبًا ورهبًا هو فوق كل شيء عالٍ على جميع خلقه استوى على عرشه بائنًا من مخلوقاته وهو يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى حركاتهم وسكناتهم وجميع تقلباتهم وأحوالهم ولا يخفى عليه منهم خافية" اهـ
(4)
.
مع وجود هذه الآيات البينات قد ضلت عامة الحلولية والاتحادية في هذا الباب، فقد أشار إلى مذاهبهم ابن القيم رحمه الله فقال:
"إنه (الله عز وجل لو لم يكن مباينًا للعالم، لزم أحد أمور ثلاثة، قد قال بكل منها قائل:
أحدها: أن يكون هو هذا العالم كما قال أهل وحدة الوجود، والذي قادهم إلى هذا القول هو نفي المباينة كأن قلوبهم وفطرهم طلبت معبودًا، فلما اعتقدوا أنه غير مباين للعالم، وتيقنوا أنه موجود قائم بنفسه، قالوا: فهو هذا العالم بعينه.
(1)
سنن أبي داود: 1/ 358 (1905) وأصل الحديث في الصحيحين.
(2)
صحيح البخاري مع الفتح: 3/ 573 (1739).
(3)
سورة غافر: 36.
(4)
معارج القبول للحكمي: 1/ 110.
الثاني: قول من يقول، بل هو حالّ في العالم وهو قول الحلولية.
الثالث: قول من يقول: لا هو العالم ولا هو حالّ فيه ولا بائن عنه، ولا متصل به ولا منفصل عنه وهو قول الجهمية" اهـ
(1)
.
وهناك نصوص من الكتاب والسنة تثبت لله عز وجل صفة المعية والقرب، فقد ضلت عامة الحلولية والمعطلة في الاستدلال بتلك النصوص، فحولوها إلى الاتحاد والحلول، وعطلوا بمقابلها صفة العلو والاستواء، وأما أهل السنة والجماعة فقد اهتدوا إلى التفسير الصحيح للمعية والقرب، فأثبتوا لله وصف المعية والقرب كما يليق بجلاله، وأثبتوا له العلو والمباينة كما يليق بجلاله لأنهم نظروا إلى جميع النصوص، إذ أن من أصول المنهج السني الرجوع إلى جميع النصوص الواردة في مسألة ما وعدم الاقتصار على بعضها دون البعض الآخر، ومن خالف هذه القاعدة فقد ضل.
والمعية في (معناها الصحيح) تنقسم إلى أقسام: عامة وخاصة وخاصة الخاصة ولكل قسم من هذه الأقسام مقتضى:
فالعامة: تشتمل كل أحد من مؤمن وكافر وبر وفاجر ومثالها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
(2)
ومقتضاها العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وغير ذلك.
والخاصة: تشتمل كل وصف بصفة معينة مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}
(3)
ومقتضاها النصر والتائيد.
وخاصة الخاصة: تشتمل من ذُكر بالتعيين، مثل قوله تعالى لموسى وهارون:{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
(4)
وقوله تعالى عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
(5)
ومقتضى هذه المعية النصر والتأييد
(6)
.
(1)
الصواعق المرسلة لابن القيم: 4/ 1339.
(2)
سورة الحديد: 4.
(3)
سورة النحل: 128.
(4)
سورة طه: 46.
(5)
سورة التوبة: 40.
(6)
ذكر هذه الأقسام الشيخ ابن العثيمين بالتفصيل في شرح الواسطية: 1/ 402 - 401 و 2/ 79.