الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقصود في هذا المقام هو قولنا: إن الاستدلال بالقرآن المجيد على قول من هذه الأقوال، واعتباره مسألة من مسائل الإسلام المنزلة من الله خطأ من أخطاء العلماء المتقدمين" اهـ
(1)
.
وقال إقبال: "مسألة القضاء والقدر كانت هي نتيجة لبعض الأفكار الفلسفية وبعض المصالح السياسية
…
لما أن سلسلة العلة والمعلول أخيرا تنتهي إلى ذات الله عز وجل فقالوا: كل ما يحدث في الكون هو من أمر الله.
ومن جهة أخرى قد استغل هذه الفكرة حكام دمشق الأمويون الماديون، فركبوا مطية عقيدة القدر لستر مظالمهم في كربلاء وغيرها من الأماكن تحت هذا الستار، لكيلا يثور عليهم العامة، ويحرموهم من ثمرات نتيجة خروج معاوية رضي الله عنه، فكانوا يقتلون الناس ويقولون:"ما شاء الله فعل". فلما بلغ هذا إلى (الإمام) حسن البصري رحمه الله قال: "كذب أعداء الله" اهـ.
ثم انتشرت هذه العقيدة المذمومة رغم النكير عليها من قبل العلماء، ..... والذين تمسكوا بهذه العقيدة حاولوا الاستدلال بالقرآن الكريم كدأب المسلمين عامة في كل مسألة" اهـ
(2)
.
وقال أيضا: "إن الإنسان الذي يقول عنه الجهال: إنه تابع لقدر الله وسجين في قضائه، فلم تزل فيه قوة يخرق بها قضاء الله وقدره" اهـ
(3)
.
تحليل العبارة وتعيين الشبهة
عبارات السيد تبين أن مسألة الجبر والخيار-التي هي أساس عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر- لا علاقة لها بالإسلام ولكن العلماء المتقدمين أخطؤوا عندما جعلوها مسألة من مسائل الإسلام.
(1)
تفسير القرآن للسيد: 1/ 14.
(2)
تشكيل جديد لإقبال ص: 167 - 168.
(3)
المرجع السابق: 32.
فقال: "إن الاستدلال بالقرآن المجيد على قول من أقوال هذه المسألة واعتباره مسألة من مسائل الإسلام المنزلة من الله خطأ من أخطاء العلماء المتقدمين" اهـ
(1)
.
فالعبارة السابقة يريد بها السيد أن يلغي ركنا من أركان الإيمان الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، ومما لا شك فيه إن هذا انهزام أمام مزاعم وتحديات استشراقية، لأن المستشرقين قد أثاروا شبها كثيرة حول عقيدة القضاء والقدر.
فمن المزاعم الاستشراقية شبهة التعارض بين آيات تدل على مشيئة الله ونصوص دالة على مشيئة الإنسان التابعة لمشيئة الله تعالى، يقول جولدتسيهر: "وليس في الإسلام على ما نرجح مسألة مذهبية يمكن أن نستخلص من شأنها من القرآن تعاليم متناقضة كتلك التي نبحثها الآن:
فالعبارات الجبرية العديدة يمكن أن تعارض بعبارات النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على أن الله ليس هو الذي يضل النفوس بل هو الشيطان الرجيم العدو الغرور (سورة الحج: 40، سورة فاطر، سورة فصلت: 36، سورة زخرف: 37، سورة المجادلة: 19) منذ عهد آدم (سورة البقرة: 36 وسورة ص: 83 وما يليها).
أما الذين كانوا يريدون أن يستندوا إلى نظرية أو مذهب حرية الإنسان التامة البعيدة عن تأثير الشيطان الرجيم، فكانوا كذلك يستطيعون أن يجدوا عددا كبيرا من الآيات الواضحة التي يمكن أن يؤخذ منها لرأيهم المعارض للجبر، فالحسنات والسيئات التي يأتي بها الإنسان قد سميت "بالكسب" فهي لهذا أعمال تمت بحرية كاملة (مثال ذلك سورة آل عمران: 25، سورة المطففين: 14) " اهـ
(2)
.
ومن الشبهات التي أثارها المستشرقين حول قضية القضاء والقدر زعمهم: "أن الإنسان في التصور الإسلامي شخص عاجز فاقد لحرية الاختيار أمام إرادة الله
(1)
تفسير القرآن للسيد 1/ 14.
(2)
العقيدة والشريعة لجولدتسيهر ص: 90.
المهيمنة المسيطرة، كما قال سورديل (Sordel): والواضح أن القدرة الإلهية تسيطر على الوحي القرآني إلى حد أنها تخنق الحرية البشرية" اهـ
(1)
.
وهذه وغيرها من الشبهات الاستشراقية التي قد أتيرت حول قضية الإيمان بالقضاء والقدر، فكان من المفروض أن يقف السيد وقفات عديدة، ويعطي توجيهات سليمة سديدة جريئة من منطلق المنهج السني، وهذا ما توقعنا من السيد الذي قيل عنه: إنه قد خاض البحر في الرد على المستشرقين
(2)
، ولكنه انهزم انهزامًا تامًّا أمام تحدياتهم الاستشراقية، وحاول أن يسقط ركنا من أركان الإيمان الستة، فقال في موضع آخر: "من الأصول القديمة أن الإيمان والتوكل على قضاء الله وقدره والشكر له من واجبات المؤمن، بينما الأصول الجديدة تعرف القدر بأنه ما يقع حينا بعد حين
…
"اهـ
(3)
. فأنكر أن تكون هناك آية في القرآن الكريم تدل على الجبر أو الخيار، فمثل السيد في هذا -إذا صح التعبير- كمثل النعامة تدس رأسها في التراب إذا رأت الصياد.
بل هناك آيات في القرآن تصف مشيئة الله المهيمنة وإرادته الكونية حيث يتبادر إلى الذهن أنها آيات الجبر، وهناك آيات تصف مشيئة الإنسان وإرادته الحرة حيث يتبادر إلى الذهن أنها آيات الخيار المطلق، وللعلماء توجيهات سليمة في فهم هذه الآيات فهما صحيحا.
(1)
الإسلام لديمنك سورديل: ترجمة: خليل الجر، المنشورات العربية فرنسا، ص:36.
(2)
كما يقول السيد عن نفسه: "إنني قد قمت بالرد على سير وليم ميور وغيره من المؤلفين الغربيين الذين كتبوا حول السيرة النبوية، قد وقفت وقفة عند كل حرف ورددت عليهم ردا مقنعا ومحققا،
…
وأعتبر هذه الرحلة العلمية إلى لندن تساوي عشرة حجات إلى بيت الله الحرام (ينظر حياة جاويد لحالي ص: 421).
(3)
سير سيد كي إسلامي بصيرت لجمال خواجة، نيو عليكره مومنت، عليكره الهند ط / 1، 1987 م ص:36.
وأما إقبال فقد قال: إن الإيمان بالقضاء والقدر كان من نتيجة بعض الأفكار الفلسفية والاتجاهات السياسية، ثم اتهم حكام بني أمية بأنهم كانوا جبريين واحتجوا بالقدر، فركبوا هذا المركب لبيان تبرير جرائمهم.
قلت هذا بعينه ما تفوه به أعداء الإسلام من المستشرقين، فقال جولدتسيهر:"فالحركة القدرية في عصر الدولة الأموية كانت إذن المرحلة الأولى في طريق زلزلة المذهب السني في العالم الإسلامي" اهـ
(1)
.
وقال أيضا: "وكما أن هذه الفكرة أو هذا المذهب استخدم لتبرير الأسرة الأموية على العموم، قد استخدم أيضا بطيبة خاطر ورضى في تهدئة الشعب حينما كان يبتلى أو يغرى بأن يرى في أعمال الحكام أو العمال الظلم والطغيان، فعقلية الرعية الهادئة المطيعة يجب أن تعتبر أمير المؤمنين وما يجيء عنه من آلامٍ قدرا من الله، فليس يمكن لأحد أن يتهم ما يصدر عنه" اهـ
(2)
.
ثم احتج جولدتسيهر على ما تفوه به من المزاعم بقصة مفتراة، فقال:"حينما كان من عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الذي اضطلع بكفاح مؤلم لتقوية سلطانه أن اجتذب إلى قصره أحد نظرائه وخصومه وذبحه باستحسان صاحب مشورته، وأمر برمي رأسه إلى الجمهور المخلصين له، الذين كانوا ينتظرون أمام القصر عودته، كما أمر بإعلامهم أن أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ" اهـ
(3)
.
ففي العبارات السابقة نرى توافقا كبيرا بين آراء المستشرقين وأقوال المستغربين، وليست الغرابة من أن نسمع مثل هذه الاتهامات من أعداء الإسلام، ولكن الغرابة كل الغرابة عند ما نجد هذا الكلام عند شاعر إسلامي مثل محمد إقبال الذي يضرب به المثل في الأدب الإسلامي لعاطفة دينية صادقة.
(1)
العقيدة والشريعة لجولدتسيهر: ص: 99.
(2)
المرجع السابق: ص: 98.
(3)
المرجع السابق: الصفحة نفسها.
ومما يزيد الطين بلة عندما سمى فكرة الجبر المنحرفة بالاعتقاد بقضاء الله وقدره، فقال:"الاعتقاد بالقدر الذي يسميه المصنفون الغربيون بالحظ (Luck) كان نتيجة بعض الأفكار الفلسفية وبعض المصالح السياسية" اهـ
(1)
.
ونحن لا نتهم إقبالًا إذا قلنا: كأنه يريد بهذه التسمية إلغاء ركن من أركان الإيمان، لأنه عندما بدأ خطبته الرابعة بعنوان:(ذات الإنسان - الجبر والقدر- الحياة بعد الموت) ذكر من صفات الإنسان: "أنه مطيع لله، وأنه خليفته في الأرض مع ما فيه من النقائص، وأنه أمين لشخصية حرة مطلقة، وقد حاذ الإنسان هذا المنصِب بعد أن أوقع نفسه في أخطار
…
" اهـ
(2)
.
ثم اعترض على قدر الله وقال: "
…
مشاعري وحُبي وبُغضي وأوامري وعزائمي إنما هي جزء من ذاتي ولا ينبغي لله أن ينزل منزل مشاعري ويرد حكمي أو إذا كان هناك طريقان فيختار لي منهما واحدا
…
" اهـ
(3)
.
ثم اختار إقبال المنهج التعليلي في بيان أسباب نشأة الاعتقاد بالقدر فقال: "إن مسألة القضاء والقدر كانت هي نتيجة لبعض الأفكار الفلسفية وبعض المصالح السياسية
…
لما أن سلسلة العلة والمعلول أخيرًا تنتهي إلى ذات الله عز وجل فقالوا كل ما يحدث في الكون هو من أمر الله.
ومن جهة أخرى قد استغل هذه الفكرة حكام دمشق الأمويون الماديون، فركبوا مطية عقيدة القدر لستر مظالمهم في كربلاء وغيرها من الأماكن تحت هذا الستار، .... إلى أن قال: انتشرت هذه العقيدة المذمومة رغم النكير الشديد عليها من قبل العلماء
(4)
.
(1)
تشكيل جديد لإقبال: ص: 167.
(2)
المرجع السابق: ص: 143.
(3)
المرجع السابق: ص: 150.
(4)
المرجع السابق: ص: 167 - 168.
قد يقول قائل: إن إقبالًا لم يقصد هنا بالقدر الاعتقاد الصحيح في مفهومه الصحيح، إنما مراده هو ذم الاتكال على القدر وترك العمل، لما أنه رأى أن الأمة قد أصابها تخلف علمي وتخلف حضاري، فأراد أن يبعث فيهم روح النشاط والاعتماد على الذات فقال ما قال في ذم القدر.
ولكن هذا الاعتذار غير صحيح لأنه قد رأينا فيما سبق من العبارات، أنه قد اعترض على قدر الله، وافترض على الله أنه لا يتدخل في شؤون الإنسان أو أنه لا يختار له طريقا من طريقين، فأين هذا من قول الله عز وجل:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
(1)
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" اهـ
(2)
وهذا كله يدل على أنه أراد بالقدر هو القدر المعروف في الكتاب والسنة.
ولو افترضنا أنه أراد بالقدر مفهومه الخاطئ عند بعض المسلمين، فما ينبغي لإقبال لخطأ بعض الأمة في فهم معنى القدر أن يجعل هجمة شرسة على ركن من أركان الإيمان، وهو عقيدة القضاء القدر، حتى قال في كلامه الشعري:
"إن الإنسان الذي يقول عنه الجهال إنه تابع لقدر الله وسجين في قضائه، فلم تزل فيه قوة يخرق بها قضاء الله وقدره" اهـ
(3)
.
فقد وصف من اعتقد أن الإنسان تابع لقدر الله بأنه جاهل، ووزعم أن الإنسان يخرق قضاء الله وقدره، ومثل هذه التصريحات من إقبال قد وجدت في غير واحد من المواضع في تأليفاته، وسيأتي بعض العبارات في المطلب القادم عند ذكر معنى القدر عند هؤلاء المتأثرين بالاستشراق.
بعد هذا التحليل العلمي لعبارات السيد وإقبال يمكن تعيين الشبهة في النقاط التالية:
(1)
سورة الأنفال: 24.
(2)
صحيح مسلم مع الشرح: 15 - 16/ 443 (2654).
(3)
بال جبريل لإقبال: ص: 32.