الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال إقبال في كلامه الشعري: "قد جاء زمن بدأت تنكشف فيه الأسرار المكنونة كلها وولّى دور كان يقال فيه {لَنْ تَرَانِي} " اهـ
(1)
.
تحليل العبارة وتعيين الشبهة
بعد أن أثبت السيد وإقبال أن النبوة أمر طبيعي يكتسبها الإنسان أو يطورها بالممارسة والمجاهدة، فسّرا الوحي بما يناسب لهذا الأمر الكسبي أو الفطري، فمصدر الوحي عند السيد هو قلب النبي صلى الله عليه وسلم ثم حدد إقبال موقع الوحي من القلب هو الوجدان أو الكيف الوجداني، إلّا أن إقبالًا لم يوضح لنا فهل هو يتكلم في هذا المقام عن الوحي أو يتكلم عن الكشف الذي يدعيه المتصوفة، ولكن السيد بيّن أن هذا الكيف الوجداني هو اللسان الناطق للوحي وهو الأذن السامعة التي يسمع بها الوحي وهو العين الباصرة يبصر بها الوحي، فالنبي كفاقد العقل (عنده) يسمع صوتا دون أن يرى المتكلم ويبصر شخصا خياليا لا وجود له.
فمفهوم الوحي عند السيد وإقبال مختلف عن المفهوم الذي أورده الشرع للوحي، والذي اتفقت عليه سائر الأمة. فتعريف السيد للوحي يكاد يتحد بالتحليل النفسي عند العلماء لبعض الحالات المرضية، بينما تعريف إقبال للوحي يتحد تماما بحالات المراقبة والكشف عند الصوفية، ومردّ ذلك كله أنهما تكلفا بشرح الإسلام في ضوء ما يقبله الغرب، وتقرّه علومهم التجريبية، وبما أن الوحي غير معترف به في المعامل الغربية، فليكن شبيها بحالة من حالات النفسية المعترف بها لدى الغرب أو الحالة الصوفية المعترف بها عند الغرب، نسأل الله السلامة من زيغ الفكر.
فشبهة الوحي النفسي قد اهتم بها الأعداء من المستشرقين وغيرهم ليقطع صلة الإسلام من الله تعالى.
يقول المستشرق "درمنغم": "وجعل (الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي ساعات طويلة
(2)
جافيا في أطلال الغار، أو متقلبا تحت وهج الشمس، وسائرا بخطى
(1)
بال جبريل لإقبال: 141.
(2)
وفي الأصل "طويل الساعات".
واسعة في الشعاب، وكان كلما سار خيل إليه أن أصواتا تخرج من الحجارة
…
هذه الكواكب تكون في ليالي صيف الصحراء من الكثرة وشدة النور ما يخيل معه أنه يسمع صوتا لِلَمَعَانِهَا كما يسمع صوت نار موقد كبير" اهـ
(1)
.
ويقول المستشرق "لوثروب ستودارد": "كان محمد أميا لا يقرأ ولا يكتب ولم يكن فيلسوفا ولكنه لم يزل يفكر في هذا الأمر إلى أن تكونت في نفسه بطريق الكشف التدريجي المستمر عقيدة كان يراها الكفيلة بالقضاء على الوثنية" اهـ
(2)
.
وقال أيضا: "إن سبب الوحي النازل على محمد صلى الله عليه وسلم والدعوة التي قام بها هو ما كان ينتابه من داء الصرع" اهـ
(3)
.
أما "ماكدونالد" فقد اتهم محمدا صلى الله عليه وسلم بأن الغيرة قد أخذته من غلام يهودي كان يُدعى ابن صياد، لأنه كان يتمتع بالظواهر نفسها التي سماها "ماكدونالد" ظواهر مرض الصرع، فيقول:"كان هناك طفل يهودي في الثالثة عشرة من العمر يُدعى ابن صياد .... " اهـ، ثم ذكر القصة بأسلوبه الماكر وأخيرا استنتج نتيجة يقول فيها: "إنه لمن الواضح والبين أن محمدا كان يميز ما حوله من ظواهر شبيهة بالظاهرة التي كانت تعتريه، وكان يعلم أنه لا توجد خطورة عليه من تلك الظواهر وأصحابها، ولكن كان يجب عليه أن يضع لها تعليلا لكي لا ينصرف الناس منه إليها، فأخبر من حوله بأنه أوحي إليه، وأن تلك الظواهر الشبيهة بظاهرته إنما هي من التكهن، فبينما يؤيده هو ملك يسمى بروح القدس، فإن الكهنة يؤيد هم الجن
…
لكن بالرغم من كل المحاولات كان معارضوه يلقبونه بالشاعر رغم أن ما كان يقوله
(1)
حياة محمد لأميل درمنغم ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1942 م ص:56.
(2)
حاضر العالم الإسلامي لـ لوثروب ستودارد، تعليق: شكيب أرسلان، ترجمة: عجاج نوبهز دار الفكر، بيروت 1394 هـ/ 1973 م، ط/ 1: 4/ 39.
(3)
المرجع السابق: 1/ 34.
يقترب إلى مقومات الشعر في عصره، ولا يرتقي لمستوى حديث الشعراء، ولقد لقبه آخرون بالكاهن، وقال بعضهم الآخر بأنه مؤيد من قبل الجن" اهـ
(1)
.
هذه وغيرها من الاتهامات تفوه بها أعداء الإسلام على الوحي القرآني، فكان مما ينبغي لسيد أحمد خان والدكتور إقبال ومن سلك مسلكهما أن يردوا على هذه الشبهات الاستشراقية بأدلة عقلية ونقلية مقنعة. وأن يقفوا أمام هذه التحديات وقفات جريئة، ولكنهم انساقوا إلى ما قاله المستشرقون، وتركوا ما عندهم من الحق، فرفض السيد مفهوم السلف في مسألة النبوة والوحي بقوله الصريح، واتهم إقبال المحدثين بأن فهمهم لقصة ابن صياد قد تقاصر، ولم يبق بعد الحق إلا الضلال، فقالوا مثل ما قال المستشرقون أنفسهم، ولقد عبر عن هذا الرأي أحد العرب المتأثر بالاستشراق بتعبير بليغ فقال:
"إن الوحي والإلهام كان يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، ذلك أن منازع نفسه العالية، وسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله، وبوجوب عبادته وترك ما سواها من عبادة وثنية وتقاليد وراثية رديئة، يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلى في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية، فيتصور ما يعتقد وجوبه إرشادا إلهيا نازلا عليه من السماء بدون وساطة أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك، ويعتقد أنه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء، فكل ما يخبر به النبي من كلام ألقي في روعه، أو عن ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده" اهـ
(2)
.
(1)
The Religios Attitude And Life In Islam، by D.B Macdonald، The University of Chicago Illinois، 1906 p.p 33 - 37 نقلا عن منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل لـ د. عزيزة علي طه، ط/ 2، 1417 هـ / 1996 م ص:2728.
(2)
الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص: 75.