الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اختياره وولادته على شكل مخصوص ليس من اختياره، وجريان الدم في عروقه ليس له فيه خيار، وكذلك نضام الهضم في بطنه لا خيار له فيه، وإذا أراد خلاف هذه الأفعال لم تتحقق له إرادته.
وأما الأفعال الاختيارية: فهي كثيرة فهو يقوم ويقعد ويدخل ويخرج ويسافر ويقيم بمحض إرادته، ولا يشعر بأن أحدا يكرهه على ذلك، فيفرق تفريقا واقعيا بين أن يفعل الشيء باختياره وبين أن يكرهه عليه مكره، كذلك فرق الشرع بينهما تفريقا حكيما فلم يؤاخذ الفاعل بما فعله مكرها عليه فيما يتعلق بحق الله تعالى.
خامسا: إنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى لأن العاصي يقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله تعالى قدرها عليه، إذ لا يعلم أحد قدر الله إلّا بعد وقوع مقدوره، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}
(1)
، فكيف يصح الاحتجاج بحجة لا يعلمها المحتج بها حين إقدامه على ما اعتذر لها عنه، وقد أبطل الله تعالى هذه الحجة بقوله:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}
(2)
(3)
.
الشبهة الثانية: الاعتقاد بالقضاء والقدر لم يكن من مسائل الإسلام إنما هو نتيجة بعض الأفكار الفلسفية والاتجاهات السياسية:
فهذا الزعم لا يخلو من وجهين إما أريد به الإيمان بالقضاء والقدر في معناه الأصلي أو أريد به الاحتجاج بالقدر، فإذا أريد به الوجه الأول فيُرد عليه بما يلي:
(1)
سورة لقمان: 34.
(2)
سورة الأنعام: 148.
(3)
ينظر عقيدة أهل السنة والجماعة لابن العثيمين، من مطبوعات الجامعة الإسلامية، 1407 هـ ص: 29 - 30.
إن الإيمان بالقضاء والقدر ليس من معطيات الفلسفة اليونانية، ولا هو نتيجة الاتجاهات السياسية كما زعم إقبال ومن ذهب مذهبه، بل هو ركن من أركان الإيمان الستة الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قد أنزل الله عز وجل عديدا من الآيات القرآنية ليبين دعائم هذه العقيدة، وأرساها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب المسلمين بأقواله وأعماله، وقد أثمرت هذه العقيدة في حياة الصحابة في عهد النبوة وما بعد النبوة في عصر الخلفاء الراشدين وفي العهود التي أتت بعدهم.
ومما يدل على ذلك ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} " اهـ
(1)
(2)
.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل قال (جبريل): فأخبرني عن الإيمان قال (رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره قال (جبريل): صدقت
…
" اهـ
(3)
.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن الله تعالى عذب أهل سماواته وأرَضيه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو كان لرجل أحد أو مثل أحد ذهبا ينفقه في سبيل الله لا يقبله الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإنك إن مت على غير هذا أدخلت النار" اهـ
(4)
.
(1)
سورة القمر: 48 - 49.
(2)
صحيع مسلم مع الشرح 15 - 16/ 444 (2656).
(3)
المصدر السابق: 1 - 2/ 272 (21).
(4)
كتاب السنة لابن أبي عاصم: 1 - 2/ 109 (245) قال الألباني: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "القدر نظام التوحيد فمن وحّد الله وآمن بالقدر وتم توحيده ومن وحّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده" اهـ
(1)
.
وهناك نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تدل على مقادير الخلق ومراتب الإيمان بالقدر والقضاء الأربع: من العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وقد ذكرنا بعضا منها في تمهيد هذا المبحث.
هذا إذا أراد إقبال والسيد في عباراتهما السابقة الإيمان بالقدر في معناه الحقيقي.
وأما إن أرادا بها الاحتجاج بالقدر عند ارتكاب المعاصي فهما بهذا القول قد تأثرا بأقوال المستشرقين، وتجاهلا عن تاريخ نشأة فكرة الاحتجاج بالقدر من ناحية، ومن ناحية أخرى اتهم إقبال بني أمية بأنهم كانوا جبريين وكانوا يحتجون بالقدر.
لأن فكرة الاحتجاج بالقدر من الأمور التي صاحبت الإسلام منذ نشأته، فأول من خاصم في القدر هم كفار قريش كما سبق آنفا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكانوا يحتجون بالقدر، ويتعللون بمشيئة الله، وينسبون ما وقع منهم من كفر وشرك وعصيان إلى إرادة الله، وذلك خروجا عن مسؤولية ما اقترفوا من شرك وإثم.
(2)
، فأجابهم وردّ عليهم شبهتهم قائلا:{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية: 8/ 258.
(2)
سورة الأنعام: 148.
(3)
سورة الأنعام: 148.
وقال تعالى مؤكدًا وقوع ذلك منهم: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}
(1)
.
فقوله عز وجل في آية "الأنعام"{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، وفي آية "النحل":{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يشير إلى أن جذور هذا القول ضاربة في أعماق الأمم المشركة، ويدل دلالة واضحة وصريحة على أن من شأن المشركين والكافرين من بني الإنسان التعلل بالقدر والميل إلى الجبر لتبرير شركهم وكفرهم، أو على الأقل للتنصل من جريرة ذلك ومسؤليته" اهـ
(2)
.
وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم خاض بعض الصحابة الكرام في القدر فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فانتهوا لمثل ذلك أبدا.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يفقشأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: "بهذا أمرتم؟ ولهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، وبهذا هلكت الأمم قبلكم" اهـ
(3)
.
فثبت بما تقدم باُن الإيمان بالقضاء والقدر كان ركنا من أركان الإيمان منذ العهد الأول وليس هو من معطيات الفلسفة اليونانية، وكذلك الاحتجاج بالقدر قد وجد جزوره عند الجاهليين فليس هو نتيجة بعض الاتجاهات السياسية في العهد الأموي، بل كانت هي شبهة قد تعلقت بأذهان الجاهليين فجاء القرآن، ورد عليهم
(1)
سورة النحل: 35.
(2)
وسطية أهل السنة بين الفرق لـ د. محمد باكريم ص: 368.
(3)
سنن ابن ماجه 1/ 33 (85)، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح (صحيح ابن ماجه 1/ 21 (69)).