الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال إقبال: "أحكام الشريعة الناتجة عن هذا التطبيق كالأحكام الخاصة بعقوبات الجرائم هي أحكام يمكن أن يقال تخص هذه الأمة، ولما كانت هذه الأحكام ليست مقصودة لذاتها فلا يمكن أن تفرض بحرفيتها على الأجيال المقبلة، ولعل هذا هو السبب في أن أبا حنيفة رحمه الله الذي كان يعلم عالمية الإسلام لم يكد يعتمد على الأحاديث" اهـ
(1)
.
وقال أيضا: "وأما في مسألة الاجتهاد فلا بد من التمييز بين أحاديث تدخل في إطار القانون، وأحاديث ليس لها ارتباط بالقانون، ثم لا بد من التفريق في القسم الأول: بين تلك الأحاديث التي جاءت كعادات جاهلية، وتلك التي ذُكرت فيها أعراف وعادات جاهلية مع تدخلٍ شرعيٍ من قِبَلِ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الحقيقة صعب إدراكها لأن الفقهاء المتقدمين لم يشيروا إلى هذه الأعراف، ولا نعلم هل أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأعراف بقوله الصريح أم تركها بدون أي تلميح، هل كان قصد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الأحاديث أن يُعمل بها في كل مكان وزمان" اهـ
(2)
.
تحليل العبارة وتعيين الشبهة
المتأمل في العبارات السابقة يعرف جيدا أن العبارات كلها ترتكز على نقطة واحدة وهي محاولة نزع السلطة التشريعية عن صاحبها صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا الهدف سلكوا عدة طرق منها:
1 -
وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه كان مصلحا اجتماعيا.
2 -
وأن سننه ليست بواجبة الاتباع على الأمة.
3 -
وأن سننه صلى الله عليه وسلم مختلطة بالعادات والأعراف الجاهلية، كما هي مختلطة بالضعيف والموضوع.
(1)
تشكيل جديد لإقبال ص: 265 - 266.
(2)
المرجع السابق ص: 264 - 265.
4 -
وأنه ليس هناك منهج معين يتميز به الأعراف الجاهلية من السنن النبوية، أو يُميَّز به بين الصحيح والضعيف منها.
5 -
وأما القدر الثابت منها فلم يكن مقصودا لذاته، فلا يمكن أن تفرض هذه السنن بحرفيتها على الأجيال المقبلة.
وهذا كله وجه من وجوه إنكار السنة بل هي الطامة الكبرى التي حصلت في ديار الهند بسبب التأتير الاستشراقي الغربي، وهذا هو السبب الأساسي في بروز الفرق المنحرفة عن الإسلام مثل الفرقة القاديانية والقرآنية (منكري السنة).
يقول الدكتور سمير عبد المجيد: "وسط هذه الظروف والأحوال فإن مستوى الاعتزال الجديد يمكن أن يكون مستوى متدنيا جدا بالنسبة للاعتزال القديم لسبب العلم القليل مع جسارة الجهل الزائدة، ويضم التكنيك الذي يستعمل الآن لنشر هذه الفتنة العناصر التالية كأهم ما فيه:
أولا: التصديق لصحة الطعن الذي استخدمه المستشرقون الغربيون للتشكيك في الحديث، ثم إضافة الحواشي من جانبهم ونشر هذه الأفكار بين عامة المسلمين حتى يصاب الجاهلون منهم بسوء الفهم الذي يجعلهم يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت لهذه الأمة بأية وسائل أخرى ثابتة، وقابلة للاعتماد إلا بالقرآن الكريم.
ثانيا: محاولة التجريح في مجموع الأحاديث بهدف إعابتها، وتتم هذه الطريقة بنفس الأسلوب الذي يجرح به الهنادكة الآريون والمنصرون المسيحيون القرآن الكريم، واستخراج أشياء بل اصطناعها اصطناعا، وعرضها على العامة، حتى يمكن أن يؤثروا بها عليهم، على أساس أن كتب الحديث مملوءة بمواد مخجلة ومضحكة .... ثم تدمع العين بعدها وتطلب إنقاذ الإسلام من هذا الخجل.
ثالثا: اعتبار منصب الرسالة مجرد منصب، وأن عمل النبي هو فقط مجرد إبلاغ الناس بالقرآن الكريم.
رابعا: اعتبار القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للتشريع وإخراج السنة من نظام الشريعة" اهـ
(1)
.
ولم تنحصر هذه الفتنة فيمن تأثر بالمستشرقين مثل سيد أحمد خان وجراغ علي وأمير علي وإقبال بل تعدت إلى العلماء الكبار الذين لهم جهود طيبة في نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عنها، فأثاروا شبها حول منهج المحدثين في تحقيق الروايات فتشابهت شبهاتهم وشبهات المستشرقين والمستغربين، ونذكر هنا على سبيل المثال: من هؤلاء العلماء الكبار شبلي النعماني رحمه الله: فيرى ترجيح الدراية على الرواية، وترجيح فتوى عقلية لعالم من العلماء على الحديث الثابت الصحيح، والاهتمام بمتن الحديث في النقد أكثر من نقد الرواة وعددهم، فرفض على هذا الأساس معظم الأحاديث الثابتة سندا، منها ما يرى مخالفا للعقل أو مخالفا لدراسته الطبيعية أو مخالفا لمشاهدته الجغرافية أو مخالفا لنص القرآن في الظاهر أو مخالفا للإجماع المزعوم عند الفقهاء .... وإلى غير ذلك من المخالفات
(2)
.
ومن هؤلاء العلماء الكبار الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله فيقول: "وأما الإسناد فالمحدثون قد بذلوا قصارى جهدهم ليعرفوا أمورًا، منها: هل ثبتت المعاصرة بين الراوي والمروي عنه؟ وهل ثبت اللقاء بينهما؟ وإذا ثبت اللقاء فهل سمعه منه تلك الرواية أو سمع من غيره ونسبها إليه ومهما كان هذا البحث والتحقيق فلم يخرج من حدود القدرات البشرية.
ولا يستلزم من هذا التحقيق أنهم قد أدركوا الأمر على حقيقته، لأنه من الممكن جدًا أن الإسناد الذي يقولون باتصاله قد يكون منقطعًا في حقيقة الأمر، لأنه من الممكن جدًا أن يكون قد سقط راو مجهول ليس بثقة وهم لا يدرون، وهكذا من الممكن جدًا أن الروايات التي أقرَّها المحدثون بأنها مرسلة ومعضلة ومنقطعة وحكموا
(1)
فتنة إنكار الحديث في شبه القارة الهندية الباكستانية لـ د. سمير عبد الحميد مكتبة دار السلام الرياض، ط/1، 1412 هـ ص: 2 - 29.
(2)
ينظر سيرة النبي للشبلي النعماني: 1/ 44 - 57، 48 - 58.
عليها بأنها ضعيفة قد تكون قد جاءت من الرواة الثقات وهى صحيحة والمحدثون لا يدرونها. نظرًا إلى هذه وغيرها من الاحتمالات الكثيرة نقول: إن علم الإسناد وعلم الجرح والتعديل لا يمكن أن يقال إنه علم صحيح كليًا، إنما يستعان به في تحقيق السنة النبوية وآثار الصحابة، ولكن لا يصح الاعتماد الكلي على هذا العلم" اهـ
(1)
.
وقال أيضًا: "كان موضوع المحدثين رحمهم الله وشغلهم الشاغل تحقيق الأخبار والآثار نظرًا إلى الرواية، فغلبت عليهم وجهة نظر الأخباريين، وكانوا يحكمون بصحة الرواية وعدمها معتمدين على الإسناد ورجال السند فقط، ولذلك تغيّبت عنهم نظرة فقهية، فترى أكثر الروايات التي قالوا بصحتها ليست صالحة من حيث المعنى، وكثير من الروايات التي قالوا بضعفها تراها صحيحة من حيت المعنى" اهـ
(2)
.
بعد أن نقد منهج المحدثين في تحقيق الرواية، وضع المودودي منهجًا جديدًا، لتحقيق الروايات فيقول فيه:"إذا اتحدت روح المسلم بروح محمد صلى الله عليه وسلم، ونظره ببصيرة محمد صلى الله عليه وسلم ينصهر عقله في بوتقة الإسلام، فيرى ما يراه الإسلام ويفكر بفكرة الإسلام، وإذا بلغ المرء إلى هذا المقام فلن يحتاج إلى إسناد فى قبول الرواية، وإن استعان به فلا يكون حكمه على الحديث متوقفا عليه، إذ أنه قد يقبل حديثًا مهما كان غريبًا أو ضعيفًا أو منقطع السند أو مطعونًا فيه. لأن نظره الثاقب قد اطلع على لمعان الجوهرة من بين تلك الأحجار المهجورة، وقد يعرض طرفه من قبول حديث متصل السند لأنه يعرف أن الخمر المعنية التي ملئت بها هذه الكأس الثمينة لا تنسجم مع طبيعة الإسلام ومزاجه" اهـ
(3)
.
(1)
ينظر تفهيمات لأبي الأعلى المودودي: 321 - 323، 330 - 333.
(2)
المرجع السابق: 322.
(3)
المرجع السابق: 323 - 324.
إن هذه الإشكالات صدرت من رجل مثل المودودي الذي أفنى حياته في الدفاع عن الإسلام ورفع شأنه على سائر الأديان، والذي كتب كتابه "السنة ومكانتها في التشريعي الإسلامي" بحمال شديد ردًّا على منكري السنة، فقال فيه:"لم يكن الضمير الاجتماعي للأمة الإسلامية على استعداد بأي حال من الأحوال لقبول مسألة تحرر المسلمين من إطاعة الله، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يظهر بعض الناس في كل زمان وفي كل أمة، يخدعون بمثل هذه الأمور، إلَّا أن ملء عقل الأمة كلها بهذا الأمر يكون أمرًا صعبًا وعسيرًا، فغرس مثل هذا الأمر اللامعقول في ذهن عامة المسلمين لا يمكن أن يتم، فكيف يؤمن الإنسان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلع من عنقه قلادة طاعته، إن أي مسلم بسيط -لو أصابه مس في عقله- يمكن أن يرتكب عصيانًا، إلا أنه لا يمكن أبدًا أن يتبع تلك العقيدة التي تأمره بعدم الالتزام بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يؤمن بالرسالة المحمدية" اهـ
(1)
.
وأخيرا نرى في هذا الصدد إلى ما قاله زعيم المتأثرين بالاستشراق في الهند سيد أحمد خان: بعد أن آمن إيمانًا جازمًا بأن امتداد الزمن قد أوجد أحاديث وروايات موهومة لا حقيقة لها في الوجود وضع منهجًا جديدًا في تحقيق السنة فيقول: "يشترط في قبول السنة شروط ثلاثة:
1 -
أن يكون الحديث المروي قول الرسول صلى الله عليه وسلم بالجزم واليقين.
2 -
أن توجد شهادة تثبت أن الكلمات التي أتى بها الرواي هي الكلمات النبوية بعينها.
3 -
ألا يكون للكلمات الواردة في الحديث معان سوى ما ذكرها الشراح.
(1)
مقدمة كتاب "سنت كي آئيني حيثيت" المترجم إلى العربية بعنوان: "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي"، الدار السعودية جدة ص:2.