الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد أن ذكر هذه الروايات أضاف قائلا: "فثبت بهذه الأسانيد الثابتة أن الناس جميعا في زمن عيسى وحوارييه كانوا على يقين بأن عيسى خلق بنطفة يوسف لا كما يظنه الناس أنه خلق بدون أب" اهـ
(1)
.
وبعد أن أعرض عن آيات الله البينات في القرآن الكريم وعن السنة الثابتة الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبحت عنده الروايات الكاذبة من الأناجيل المحرفة أسانيد ثابتة، فنعوذ بالله من هذا الزيغ، وما أجبره على هذا الضلال إلّا منهجه المتأثر بالاستشراق حيث آمن إيمانا جازما بحتمية قوانين الفطرة، فاضطر في ضوء هذه المنهجية إلى رفض هذه المعجزة وغيرها من المعجزات التي سيأتي بيانها بالتفصيل في المطلب الثاني إن شاء الله تعالى.
وقد تعينت الشبهة من التحليل السابق وهي: أن ولادة عيسى لم تكن آية من آيات الله إنما ولد عيسى عليه السلام كأحد من الناس بأب وأم.
تفنيد الشبهة:
الشبهة أن ولادة عيسى لم تكن آية من آيات الله:
وللرد على هذه الفرية نقول:
أولا: إن السيد بهذه العقيدة المنحرفة قد خالف الكتاب والسنة الثابتة، وخرق إجماع الأمة الإسلامية واتفاق النصارى، وقد أشار هو نفسه إلى هذا الاتفاق في قوله:"يظن النصارى والمسلمون جميعا أن عيسى ولد بلا أب بأمر من الله" اهـ. فلا حاجة إلى إعادة الآيات والأحاديث التي سبق ذكرها.
ثانيا: بعد أن اعترف السيد بأن اليهود اتهموها اتهاما مغلظا (بالفاحشة) في صفحة 20، يأتي إلى صفحة 32، ويناقض قوله السابق ويقول: "لا يستدل بقول الله تعالى حكاية عن اليهود: {يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ
(1)
ينظر تفسير القرآن: 2/ 23 - 24.
امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}
(1)
على أن عيسى خُلق بدون أب لأن اليهود لم يخاطبوا بهذا الكلام، ولم يكن أحد يتهمها بالفاحشة، ولا في الآية إشارة إلى ذلك، فقوله تعالى:{فَرِيًّا} معناه: بديع وعجيب
…
(2)
.
فنسأل السيد فلماذا هذا التناقض في صفحات قليلة؟ ثم ماذا يقول السيد في قوله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}
(3)
.
ثالثا: إذا كانت الأناجيل نسبت عيسى إلى أبيه، وأنه يوسف، ففي الأناجيل ما ينافيه، يقول متى:"ولد عيسى هكذا: عندما خطب يوسف مريم ولم يجتمعا فإذا بمريم حبلت بروح القدس، ويوسف الذي كان صالحا لم يرد أن يشتهر الأمر فأراد أن يتركها خفيا، ريثما يفكر في ذلك إذ رأى رؤية في المنام أن الملك قال ليوسف ابن داود، لا تتردد من إحضار زوجتك مريم لأن الذي في بطنها هو روح القدس" اهـ
(4)
.
رابعا: إذا كانت ولادة عيسى من نطفة يوسف، وكانت ولادته في شريعة اليهود لا عيب فيها، فلماذا أراد يوسف أن يتركها وهو يعلم أن الحمل كان من فعله على حدّ قول السيد. وإذا قيل إن الخوف الشديد قد أصاب يوسف من أجل أن الولادة كانت خلاف العادة حيث حبلت مريم من نطفة يوسف قبل إحضارها إلى بيته، نقول: فلماذا سكت يوسف عن الجواب عند ما قال له الملك: "إن في الرحم روح القدس"؟ فهل تحولت المخافة إلى العادة بقول الملك هذا؟ ولماذا لم يصدق يوسف في هذا المقام وهو رجل صالح كما وصفه إنجيل متى؟ ولماذا لم يقل للملك: إن الندامة والخجل لم يرتفع بقولك بأنه روح القدس إذ أن الندامة كانت على أن الأمر صار خلاف العادة، وها أنا لم أكمل إجراءات الزواج بعد؟ .
(1)
سورة مريم: 28.
(2)
ينظر تفسير القرآن للسيد: 2/ 20، 32.
(3)
سورة النساء: 156.
(4)
إنجيل لوقا: 1/ 26.
خامسا: أما قول السيد: "فإن كان المقصود من خلق عيسى بلا أب إظهار قدرة الله الكاملة فقد خلق الله أنواعا من الحيوانات بدون توالد وتناسل بل خُلق الإنسان نفسه وجميع الحيوانات في البداية بدون أب وأم .... " اهـ
(1)
.
فيُرد على هذا: أن هذا الدليل أضعف من بيت العنكبوت، لأن الله الذي بدأ خلْق كل حيوان بدون تناسل وتوالد قادر على أن يعكس الأمر، وكذلك أراد أن يبدع قدرته على خلْق الإنسان بدون أب كما خلقه بدون أب وأم.
قال ابن تيمية رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
(2)
: كلام حق فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من غير ذكر بلا أنثى، كما قال:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}
(3)
وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى" اهـ
(4)
.
سادسا: أما قوله: "إذا كان المقصود إظهار قدرته الكاملة فلا بد أن يكون هذا الأمر أمرا واضحا جليا حيث لا يشك أحد، وخلق عيسى بدون أب كان أمرا مخفيا
…
" اهـ
(5)
. فنرد على هذا الزعم بقولنا: إن مريم الصديقة كانت معروفة لدى الناس، فكانوا يعرفون عفتها وإحصانها، وليس لها زوج، ومثل هذه البتول عندما أتت بولد، فلا يكون إلّا آية من الله، لقد أخبرنا الله تعالى بصدق مريم وعفتها وإحصانها لفرجها أي أنها لم تزن ولم ترتكب الفاحشة، ولما جاءت بالولد تعجب اليهود ورموها بالزنا، فبرّأها الله بأن أنطق ولدها في المهد ليشهد لأمه أولًا ولنفسه ثانيا.
(1)
تفسير القرآن للسيد: 2/ 15.
(2)
سورة آل عمران: 59.
(3)
سورة النساء: 1.
(4)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية، تقديم: علي السيد صبح المدني: 2/ 294.
(5)
تفسير القرآن للسيد: 2/ 15.
ثم نسأل السيد إذا كان سبب إنكاره لهذه المعجزة هو كونه أمرا مخفيا، فلماذا أنكر بالمعجزات الظاهرة الباهرة الكثيرة التي سيأتي ذكرها في المطلب القادم.
سابعا: إن هناك اعترافات بالحقيقة من السيد تعارض ما ذهب إليه في العبارات السابقة، فنذكر من أقواله على سبيل المثال ما يأتي:
1 -
قوله: "أتى على الناس زمان لم يبق في الناس إنسان فيه روحانية مقدسة فشاءت إرادة الله أن يخلق رجلا يهدي الناس إلى الروحانية وينشر الهداية بينهم، ومثل هذا الشخص لا بد من أن يولد بروح من الله الخاصة ولا بسبب خارجي، فولد عيسى من روح الله ليهدي الناس إلى نور الروحانية
…
" اهـ
(1)
.
2 -
قوله: "من رأى صورة عيسى الظاهرة تيقن أنه إنسان وهو ابن مريم، ومن تدبّر في ولادته حيث لم يولد بسبب خارجي تيقن أنه روح
…
" اهـ
(2)
.
3 -
قوله: "لما علم يوسف هذا الخبر تعجب لأن الحمل الذي حملت به مريم كان بطريقة عجيبة حيث لا يدركها الفهم الإنساني، ولكن يوسف لصلاحه وبره وحسن خلقه لم يرد أن يشتهر الأمر
…
" اهـ
(3)
.
4 -
قوله: " ....... ولا يستلزم منه أنه قد حصل الجماع بين يوسف ومريم بعد، ذلك لأنه لا توجد رواية تبين أن مريم بعد الخطبة تزوجت، إذ أن الحمل المقدس الذي أعطاه الله إياها كان معجزة، فاحترم يوسف هذا الحمل وامتنع عن الزواج بها
…
" اهـ
(4)
.
ومن هذا يتضح تناقض السيد فهو ينكر ولادة عيسى المعجزة، ويوافق اليهود على أن الحمل كان من يوسف ثم يعود ليقرّ بالحمل المعجز والولادة المعجزة، فلماذا هذا التناقض؟
(1)
ينظر تفسير القرآن للسيد: 2/ 2.
(2)
ينظر تصانيف أحمدية: 2/ 4.
(3)
ينظر المرجع السابق: 2/ 40.
(4)
ينظر المرجع السابق: 2/ 380.